منذ أيام كان تعثّر مصرف سيليكون فاليى SVB فى الولايات المتحدة الأمريكية بمثابة جرس إنذار مقلق، أعاد إلى الأذهان مشاهد من الأزمة المالية العالمية فى العامين 2007 و2008. المصرف الذى فقدت أسهمه 66% من قيمتها فى جلسة تداول واحدة، وتدخل الرقيب المنظّم لوقف التعامل على أسهمه، كما تم إغلاق البنك وتحويل إدارة ودائعه إلى المؤسسة الفيدرالية لتأمين الودائع، كان ضحية بائسة لسياسة التشديد النقدى العنيفة التى تبناها الفيدرالى الأمريكى منذ اندلاع الحرب الروسية ــ الأوكرانية وحتى اجتماعه الأخير، والتى كان من تجلياتها ارتفاع أسعار الفائدة من مستوياتها قرب الصفرية عشية الحرب إلى 4.75% حاليا، مع احتمال الوصول إلى مستوى 5.5% أو 6% بنهاية العام الحالى وفقا لتوقعات بورصة شيكاجو للسلع.
المصرف الشهير الذى يحتل المرتبة السادسة عشر بين أكبر بنوك الولايات المتحدة، ويعتبر ملاذا تمويليا للشركات الناشئة الصغيرة startups المتخصصة فى مجال التكنولوجيا، ترتكز قاعدة عملائه على هذا النوع من الشركات سواء من المودعين أو المقترضين. ارتفاع تكلفة الأموال على خلفية الرفع المتزايد لأسعار الفائدة فى الولايات المتحدة الأمريكية، وضع هذا المصرف وغيره من مصارف فى موقف حرج. فقد اضطر إلى سداد فائدة مرتفعة على الودائع، بينما واجه صعوبة فى استمرار خلق الائتمان وتقديم التسهيلات لعملائه، خاصة من الشركات الناشئة، نظرا لارتفاع تكلفة الاقتراض إلى مستويات يستحيل معها استمرار الأعمال لكثير من القطاعات. مما خلق فجوة تمويلية بالمصرف واضطره إلى بيع أذون الخزانة التى يملكها، ثم إلى طرح نسبة من أسهمه لتغطية خسائر بلغت 2.25 مليار دولار، الأمر الذى أعطى إشارات سلبية للسوق، وجنح ببنوك الاستثمار إلى توصية عملائها من المشترين المحتملين لأسهم المصرف بالضغط على السعر أو التخلى عن الصفقات حتى تهاوت أسعار أسهم SVB بسرعة فائقة وتعرّض للانهيار.
• • •
كذلك ونظرا لنشاط قنوات العدوى المالية فى هذا النوع من الأسواق المتشابكة، فقد كان ارتفاع أسعار الفائدة من العوامل الضاغطة على تكلفة الفرصة البديلة لممولى المشروعات الناشئة من الأفراد والمؤسسات وما يطلق عليهم المستثمرون الملائكة Angel investors الذين يساهمون فى الجولات التمويلية الأولى لشركات لم تبدأ نشاطها بعد، لإيمانهم فى ربحيتها المستقبلية. هؤلاء المستثمرون وغيرهم من شركات متخصصة فى التمويل، وجدوا ارتفاع الفائدة المصرفية بمثابة فرصة بديلة عن الاستثمار فى هذا النوع من المشروعات عالية المخاطر، حيث الفائدة المصرفية فى هذه الحال مرتفعة نسبيا وشبه خالية من المخاطر. منافسة الأوعية الادخارية المصرفية لسائر المشروعات لدى ارتفاع أسعار الفائدة هو من المخاطر المصاحبة لسياسة التشديد النقدى، حيث يرفع من هامش المخاطرة وتكلفة الاستثمار فى مختلف المشروعات.
لكن الشركات الناشئة عل وجه الخصوص كانت شديدة التضرر من ندرة بدائل التمويل وانسحاب مموليها التقليديين من ضخ أموال بها بالجولات التمويلية المتتالية. الأمر الذى أجبر تلك الشركات على السحب المستمر من ودائعها المصرفية لتغطية مصروفاتها المتزايدة، علما بأن تلك الشركات تمر بفترة طويلة من حرق الأموال لتغذية «النمو» على حساب «الربحية» التى عادة ما تتأخر إلى وقت بعيد من حياة المشروع. السحب المستمر للودائع ضاعف من أزمة المصرف المنكوب، كونه وجد نفسه عاجزا عن رد أموال المودعين إلا عن طريق تدبير الأموال من خلال بيع جانب من استثماراته وأصوله (كما تقدّمت الإشارة). لكن السوق أذكى من أن تلمح هذا التحرّك من المصرف دون أن تشحن سائر عملائها بمخاوف من إفلاسها، فتزداد وتيرة سحب الودائع فى آلية تسمى التدافع المصرفى bank rush والتى يتحكم فيها سلوك القطيع.
النتيجة المباشرة لما حدث بمصرف سيليكون فاليى هو إصابة سائر المتعاملين على أسهم المصارف بالولايات المتحدة بالفزع، لترتفع مشتريات عقود الخيارات (التى تتحوّط ضد انهيارات أسهم المصارف) إلى مستويات غير معتادة خلال إغلاقات جلسة تداول الجمعة الماضية (نهاية الأسبوع). حيث تعمل عقود الخيارات كآلية للتأمين ضد تقلبات الأسعار، وهو مؤشر على أن قطاع المصارف فى الولايات المتحدة أصبح مرتفع المخاطر. الشمول المالى فى مجتمع متقدم ماليا كالمجتمع الأمريكى، يربط الجهاز المصرفى بمختلف القطاعات والأنشطة بصلات شديدة الإحكام، الأمر الذى يفسّر سرعة انتقال الأزمات المالية داخل القطاع المالى المصرفى وغير المصرفى (خاصة سوق المال) ومنه إلى القطاعات الاقتصادية الأخرى خلال فترة قصيرة، كما حدث فى أزمة الرهن العقارى وأزمة النمور الآسيوية وغيرها من أزمات. كذلك فإن اعتبارات حجم الاقتصاد الأمريكى وتعقيده، وارتباط العالم بالعملة الأمريكية، وتدفقات الأموال والتجارة مع الولايات المتحدة.. كلها تتكفّل بانتقال الأزمة من الداخل الأمريكى إلى سائر دول العالم، حتى إن موجات الركود التضخمى العالمية فى الوقت الراهن لا تبرأ منها السياسات النقدية الأمريكية.
المصرف المنكوب هو الشريك المصرفى لما يقرب من نصف شركات التكنولوجيا والرعاية الصحية المدعومة من الشركات الأمريكية، التى تم إدراجها فى أسواق الأسهم العام الماضى، وقد بدأ نشاطه فى ولاية كاليفورنيا منذ عام 1983، ويعمل لديه حاليا أكثر من 8500 موظّف على مستوى العالم، على الرغم من أن معظم عملياته فى الولايات المتحدة. لا أحد يعرف على سبيل اليقين إلى أى مدى ستمتد موجة تسونامى المصرفية هذه المرة، فهذا أيضا مصرف أكبر من أن يفشل too big to fail كما وصف ليمان براذرز من قبل فى أزمة 2007ــ2008. كما أن تداعيات الفشل الأخير تنسحب على أكثر القطاعات الاقتصادية احتياجا للتمويل الرخيص، الذى يجمع الاقتصاديون على أن زمانه قد انقضى، وأن تكلفة الأموال لن تعود إلى ما كانت عليه قبل أزمتى الجائحة والحرب فى أوروبا.
• • •
الشركات الناشئة التى استوعبت الكثير من العقول النابهة وحديثى التخرّج حول العالم، لن تتمكن من الاستمرار فى تغذية مرحلتى الانطلاق والنمو التى يقوم عليها نموذج الأعمال النمطى لهذا النوع من الشركات، خاصة فى مجالات تطبيقات الإنترنت والاقتصاد التشاركى. الفجوة التمويلية التى من المتوقع أن تتركها شركات التمويل وبنوك الاستثمار والبنوك التجارية فى هذا النوع من الشركات الناشئة، ربما تتسبب فى تراجع حجم نشاطها بصورة ملحوظة خلال الأشهر المقبلة، مما ينعكس على ارتفاع معدلات البطالة، واضطراب أنشطة النقل والشحن والتعاملات المالية والتواصل الاجتماعى.. وكثير من الأنشطة التى تزاوجت مع التكنولوجيا فى منصات تم تدشينها من خلال تلك الشركات الناشئة. كما أن عودة أسعار الفائدة إلى التراجع النسبى ولو بوتيرة متسارعة (كما نوّه الفيدرالى الأمريكى حديثا) لا يعتقد أن يصل بها إلى المستويات قرب الصفرية مجددا (بين صفر و0.25%) كما لا يحتمل أن يعيد فئة المستثمرين أصحاب الشهية المرتفعة للمخاطر، لتمويل شركات تتأخر بطبيعتها فى تحقيق الربحية، بحيث لا يحقق المستثمر أرباحا عن النشاط، وإنما كل إيراداته من الاستثمار هى محض أرباح رأسمالية، ناتجة عن بيعه للأسهم التى اشتراها فى تلك الكيانات الناشئة، بأسعار أعلى من تلك التى اشتراها بها أول مرة. هذا النموذج يحتاج لنجاحه واستمراره حالة من الثقة الكبيرة والاستقرار فى الأسواق، والتى أظن أنها لن تعود بسهولة حتى لو انتهت الحرب الروسية ــ الأوكرانية، وتماثلت أسعار الفائدة إلى التراجع النسبى.
من المتوقع أن يتسبب التنافس الكبير على تدفقات رءوس الأموال فى السنوات القادمة، فى صدمات فى جانب العرض، مما يجعل الإنتاج من السلع والخدمات ينخفض عن الطلب الفعّال المدعوم بالقوى الشرائية فى الأسواق. هذا يؤدى إلى موجات تضخمية يتعذّر التعامل معها من خلال أدوات السياسة النقدية التقليدية كرفع أسعار الفائدة، بل على العكس، تؤدى الفائدة المرتفعة إلى مزيد من تضرر جانب العرض؛ لارتفاع تكلفة تمويل المشروعات الجديدة والقائمة، وتأثير ذلك سلبا على عجلة الإنتاج.