إثر سقوط دمشق فى قبضة «هيئة تحرير الشام»، التى تدمغ دوليا بالإرهاب، تبدت مخاوف وتساؤلات عما إذا كانت المنطقة العربية كلها، لا سوريا وحدها، على وشك إعادة رسم خرائطها من جديد.
أشباح التفكيك تخيم على الشرق العربى كله، العراق ولبنان والأردن فى عين الإعصار، والقضية الفلسطينية على المحك، أن تكون أو لا تكون، ومصر غير مستبعدة إذا ما جرى تهجير قسرى من غزة إلى سيناء.
عادت مجددا إلى واجهة الأحداث اتفاقية «سايكس- بيكو» (1916)، التى استهدفت عند ذروة الحرب العالمية الأولى تقاسم النفوذ فى المشرق العربى بين الإمبراطوريتين الفرنسية والإنجليزية عندما بدا أن الإمبراطورية العثمانية توشك أن تنزوى للأبد.
فى عام (1920) سلخ ما سمى بـ«لبنان الكبير» من الأراضى السورية بذريعة حماية الأقلية المارونية، ثم نزع «لواء الإسكندرون» فى مقايضة فرنسية تركية قبيل الحرب العالمية الثانية مباشرة.
بإرث التاريخ: استهداف سوريا وجودا ودورا لا يتوقف.
بحقائق اللحظة: سلخ حلب غير مستبعد إذا ما توافرت الظروف المشجعة.
دخلت إسرائيل على خط توزيع المغانم.
بتصريح واضح وصريح أعلن رئيس الوزراء «بنيامين نتنياهو» أنه بصدد بناء «شرق أوسط جديد»، خرق اتفاقية (1974) لفض الاشتباك مع سوريا، التى وقعت إثر حرب أكتوبر (1973). استولى على المنطقة العازلة، وجبل الشيخ بالغ الأهمية الاستراتيجية. جرد سوريا من قوتها العسكرية، طائراتها وأسطولها البحرى ومخازن سلاحها ومراكز أبحاثها بمئات الغارات دون أدنى إدانة من حكامها الجدد. توغلت قواته إلى (25) كليو مترا جنوب دمشق ليعلن أنه طرف مباشر فى لعبة تقاسم النفوذ، التى بدأت باتصالات ومشاورات وضغوطات دولية وإقليمية تتصاعد وتيرتها.
لم تكن هذه المرة الأولى، التى تطرح فيها مخاوف التقسيم على نطاق واسع ومنذر بتداعياته وعواقبه على مستقبل العالم العربى ومصيره.
عند سقوط بغداد عام (2003) طرحت نفس المخاوف، لكنها الآن أخطر وأفدح. يقال عادة: «ويل للمهزوم». وقد تجرع العراق مرارة الهزيمة واستغرقته احتراباته الطائفية وسيناريوهات تقسيمه وتوحش جماعات العنف والإرهاب فى جنباته، لكن الهزيمة شملت بالوقت نفسه العالم العربى كله.
كان احتلال بغداد نقطة تحول مفصلية استدعت مشروعات الشرق الأوسط الجديد وسيناريوهات التقسيم لصالح إعادة تمركز إسرائيل فى قلب تفاعلاته.
الآن: خرج الدور الإسرائيلى من ظلال الكواليس إلى مقدمة المشهد. لم يكن غامضا الهدف الحقيقى من احتلال العراق. كان تحطيمه على رأس الأولويات بالنيل من وزنه الجغرافى الاستراتيجى فى مشرق العالم العربى والاستيلاء على موارده النفطية، حتى لا تكون هناك فى المنطقة قوة عسكرية واقتصادية قادرة على منازعة إسرائيل.
تتجاوز الأدوار التركية والإسرائيلية تصفية الحسابات مع النظام السورى، ومنع تهريب السلاح عبر الحدود للمقاومة اللبنانية إلى إعادة رسم معادلات النفوذ.
لم يكن ممكنا الادعاء بأن «صدام حسين» هو الديكتاتور الوحيد، ولا نهايته شابهت السيناريو السورى، حيث كان السقوط مدويا بلا طلقة رصاص واحدة! عند سقوط بغداد طرح سؤال: من التالى؟ انطوى ذلك السؤال على اعتقاد بأن النظم العربية جميعها استهلكت أدوارها ووجوهها، وأصبح وجودها عبئا استراتيجيا مخيفا على حقوق المواطنين العرب فى العدل والكرامة والديمقراطية وحقوق الإنسان، فأمن الحاكم فوق أمن المواطن، وبقاء العروش فوق حقوق المواطنين.
السؤال نفسه يطرح مجددا فى ظروف مختلفة: أين الضربة المقبلة؟ عند احتلال العراق طرحت سيناريوهات «الشرق الأوسط الجديد»، التى بشرت به وزيرة الخارجية الأمريكية «كونداليزا رايس» المجال العام فى الدول العربية، خشية إعادة رسم خرائطها بإثارة النزعات الطائفية أو العرقية، أو الغزو المباشر إذا اقتضى الأمر.
بثمن باهظ دفعه العراق، لم يأخذ سيناريو التقسيم مداه، فشل إعلان دولة كردية بالانفصال، ولم تنشأ دولتان على جثته، إحداهما سنية والأخرى شيعية، لكنه ما زال يعانى حتى الآن من مغبة ما حدث.
فى الحالة السورية الحسابات تختلف. لم تسقط دمشق بغزو أجنبى، لكن الدور الخارجى واضح ومؤكد. بدا ملفتا ما صرح به زعيم «هيئة تحرير الشام» «أبو محمد الجولانى» أنها لم تحصل على تمويل، أو سلاح من أية دولة، وأن القوات التى وصلت إلى دمشق «سورية خالصة».
كان ذلك تدليسا على الحقيقة ومحاولة يائسة لإخفاء القوى، التى أعدت المشهد وهندسته لأهداف سياسية تدخل فى صميم مصالحها، تركيا وإسرائيل تحديدا.
لم يكن «بشار الأسد» هو موضوع الصراع، كما كتبت طويلا وكثيرا. إنها سوريا دورا ووجودا قبل أى اعتبار آخر. استحق «الأسد» السقوط حين رهن بقاءه على قوة الآخرين لا على قدرات شعبه وإرادة الحياة والمقاومة فيه.
فى الأزمة السورية وصلت المفارقات الأمريكية إلى ذرى غير معتادة فى السياسات الدولية.
دعا الرئيس الأمريكى الحالى «جو بايدن» إلى محاسبة أركان نظام «الأسد» على ما ارتكبوه من جرائم بشعة بحق معارضيها.
هذا كلام له منطق متماسك يسوغه، لكنه يفتقد أدنى احترام لأية قيمة إنسانية وقانونية إذا ما وضع فى سياق واحد مع رفضه القاطع لمذكرتى توقيف «نتنياهو» ووزير دفاعه السابق «يوآف جالانت» بتهمة ارتكاب جرائم حرب فى غزة والتلويح بعقاب المحكمة الجنائية الدولية التى أصدرتهما. كانت تلك مفارقة كبرى فى النظر إلى العدالة الدولية.
المفارقة الثانية، الاستعداد المبكر لرفع اسم «هيئة تحرير الشام» من قائمة الإرهاب الأمريكية دون أدنى استبيان لحقيقة مواقفها ومدى التزامها بقواعد الدول الحديثة.
إنها المصالح الاستراتيجية، التى تأخذ ما تريده إسرائيل فى كل حساب، ولا تأبه بما يحقق أية مصلحة عربية.
إذا لم يستفق العرب فى الوقت بدل الضائع فإن أشباح «سايكس- بيكو» الجديدة سوف تأخذ مداها تقسيما فوق الخرائط.