دخلت الأزمة السورية عامها الثالث. هبةُ الشعب السورى وصموده البطولى كانا محل إكبار الجميع. الثورة التى بدأت سلمية ما لبث أن فرض عليها النظام حمل السلاح. معركة غير متكافئة بالطبع ويزيد من ضراوتها عدم تورع نظام الأسد عن استخدام كل ما فى جعبته من سلاح حتى المحرّم منها. استخدم النظام صواريخ سكود الروسية ذات القدرة التدميرية الضخمة، وهناك شواهد بأن النظام استخدم بالفعل السلاح الكيماوى وتحاول الأمم المتحدة أن توفد بعثة للتحقيق ولكن النظام يضع العراقيل فى طريقها. الغريب أن صواريخ سكود تلك كان الاتحاد السوفييتى قد أمد مصر بعدد قليل منها قبل حرب أكتوبر بأشهر معدودات. حينئذ اشترط الاتحاد السوفييتى ألا تكون مصر هى البادئة باستخدام ذلك السلاح وأن تبقيه كسلاح ردع ضد من تسول له نفسه مهاجمة العمق المصرى. لم نسمع حتى الآن صوت احتجاج واحد أو اعتراض من قبل روسيا على لجوء الأسد إلى استخدام ذلك السلاح المدمر حتى وإن استخدمه ضد شعبه.
●●●
بعد مرور تلك الفترة على اندلاع الثورة السورية قد يكون من المهم أن نقيم الموقف الحالى لعدد من الأطراف الضالعة مباشرة فى المواجهة وكذلك تلك الأطراف الخارجية الأقوى تأثيرا على مجيرات الأمور.
لنبدأ بالمقاومة. تشير مختلف التقارير إلى أن المقاومة تتلقى الآن كميات متزايدة من السلاح إما عبر تركيا أو الأردن أو لبنان. أما التمويل فيأتى من بعض الدول الخليجية. تكتفى الولايات المتحدة حتى الآن بالإمداد بالمعدات غير القتالية والمشاركة فى مجال التدريب. لم يعد أمر تقديم السلاح للمعارضة سرا الآن بعد أن اتخذت القمة العربية الأخيرة فى الدوحة قرارا يعطى الحق لكل دولة أن تقدم جميع وسائل الدفاع عن النفس بما فى ذلك الدعم العسكرى إلى الجيش الحر السورى.
للأسف الشديد يعنى هذا القرار صبّ المزيد من الزيت على النار بكل ما يعنيه ذلك من زيادة فى أعداد الضحايا وفى حجم الدمار. ولا يغير من الأمر شيئا أن القرار المذكور قد أُشفع بضرورة التوصل إلى حل سلمى للأزمة.
لا ننتظر من الجماعات المسلحة، وهى غفيرة ولكنها تفتقر إلى قيادة موحدة والتى لبّت نداء الجهاد وتقاطرت على سوريا من مختلف أصقاع الأرض، لا ننتظر منها أن تَعى أو تقدر أهمية وقيمة التراث الإنسانى الذى تحتضنه سوريا متمثلا فى مدنها وآثارها وقلاعها. لذلك نرى هذه الجماعات زاهدة فى ذلك التراث وغير عابئة به. أما أن يسهم النظام السورى نفسه فى محو ذلك التراث العريق بتوجيه الضربات إليه دون اكتراث أو ندم فأمر يستعصى فهمه أو تبريره.
●●●
حققت المعارضة السورية كسبا معنويا فى موافقة قمة الدوحة على أن يشغل الائتلاف الوطنى لقوى الثورة مِقعَد سوريا فى الجامعة ومنظماتها كما أخذت القمة علما بتشكيل الحكومة السورية المؤقتة. غير أن ذلك قد تحقق بعد مخاض عسير استقال فيه من استقال من أعضاء المجلس الوطنى السورى (الذى كان يحمل لواء المعارضة حتى انضمامه للائتلاف الجديد). بل إن رئيس الائتلاف نفسه الشيخ معاذ الخطيب يبدو أنه حُمل قسرا على الجلوس على المقعد السورى بعد يومين اثنين من إعلان استقالته! وكان أول طلباته بعد احتلال المقعد مطالبته بتوسيع مدى بطاريات باتريوت المنصوبة على الحدود التركية كى يصل إلى داخل الأجواء السورية. إذن أول القصيدة كفر! المطلب الذى يجب أن يعلو على غيره هو وقف القتال وليس تعميقه أو توسيع رقعته! على أية حال لا تحظى الحكومة المؤقتة على ما يبدو بتأييد الجيش السورى الحر ولا نعلم مدى قبول الجماعات المسلحة العاملة على المسرح السورى لتلك الحكومة. إذن فالأمر يزداد تعقيدا بدلا من أن يوحى بانفراجة قريبة.
●●●
وإذا ما نحن انتقلنا بالحديث إلى الأطراف الخارجية وإلى روسيا بالتحديد لوجدنا أنها تحقق بالطبع منافع عدة من وراء دعمها للنظام. علاقات عسكرية متقدمة وتسهيلات بحرية على شواطئ البحر الأبيض وتعاون اقتصادى ضخم. غير أن الهاجس الأكبر لدى روسيا يتمثل فيما سيكون عليه الحال إذا ما سقط النظام بالفعل وتحقق للجماعات الجهادية الغلبة. تجربة موسكو فى الشيشان مازالت ماثلة فى الأذهان والحرب التى خاضتها ضد الجماعات المقاتلة هناك والتى ضمّت لسخرية القدر بعض العناصر الجهادية من سوريا نفسها كانت تجربة أليمة. استخدم الرئيس بوتين وقتها أسلوبا وحشيا فى القضاء على الثورة الشيشانية وتمت إبادة عشرات الآلاف وسويت العاصمة جروزنى بالأرض. هناك من يعتقد الآن أن الأسد إنما يتبع نفس «الوصفة» الروسية فى تعامله مع الثوار فى سوريا ونفس «روشته العلاج»!
على الجانب الآخر لاشك أن روسيا إنما تدفع ثمنا باهظا لقاء دعمها غير المحدود للنظام فى سوريا. فقدت روسيا كل تعاطف عربى وتُحمِّل دول الجوار السورى روسيا المسئولية عما يجرى على حدودها وانتقال النزاع إلى داخل أراضيها. لا يغير من ذلك تأكيدات روسيا باستمرار أنها لا تدافع عن النظام إنما عن سوريا نفسها من التشرذم. على أية حال لا يُتصور أن روسيا مازالت تعتقد حقيقة فى أن النظام، حتى وإن كُتب له البقاء، سيكون فى مقدوره حكم البلاد بعد كل ما اقترفه من جرائم فى حق شعبه وما ألحقه من دمار بطول البلد وعرضها.
●●●
وليست المعضلة التى تواجهها أمريكا بأخف وطأة من المعضلة الروسية. حاولت الولايات المتحدة حتى الآن تجنب أى تورط عسكرى فى الأزمة السورية وتقتصر مساعداتها على الإمداد بالوسائل التى تصفها بأنها غير قتالية. بل هى تجنبت حتى التجربة الليبية عندما حرصت على ألا تقود مباشرة العمليات العسكرية لحلف الناتو. غير أن عزوف الولايات المتحدة عن التدخل فى الأزمة السورية، والحرص الشديد الذى يبديه الرئيس أوباما فى التعامل معها، أعطى الفرصة لجهات عديدة داخل أمريكا لانتقاد تلك السياسة الأمريكية وتحمليها المسئولية عن تفشى ظاهرة انتشار التنظيمات الجهادية داخل سوريا بما فى ذلك تلك التنظيمات المرتبطة بالقاعدة. ويرى هؤلاء المنتقدون أن الإدارة الأمريكية قد ضَيّعت الفرصة أمام إمكانية تدخلها فى الوقت المناسب إذ إنها لو تدخلت الآن عن طريق الإمداد بالسلاح فليس هناك من ضمان ألا تجد هذه الأسلحة طريقها إلى التنظيمات المعادية لأمريكا.
●●●
إذن أصبح استمرار الأزمة السورية أمرا باهظ الكلفة بالنسبة لمختلف الأطراف بما فى ذلك القوى الكبرى. بل إن الأوروبيين أنفسهم بدأوا يشعرون أن استمرار الانقسام بين أمريكا وروسيا فيما يتعلق بالأزمة السورية سينعكس سلبا على الموقف المتماسك للدول الخمس الكبرى وألمانيا فى التعامل مع الملف النووى الإيرانى.
هناك أنباء، والغريب أنها آتية من موسكو نفسها، تفيد بأن صفقة ما على وشك أن تُبرم بين روسيا والولايات المتحدة حول سوريا وذلك على غرار الاتفاق الذى أنهى الحرب البوسنية عام 1995 (اتفاق دايتون). ليس هناك من دلائل على ذلك بخلاف إعلان البيت الأبيض بأن الموقف فى سوريا سيكون من بين الموضوعات التى سيبحثها أوباما عندما يلتقى ببوتين فى اجتماع الدول الصناعية الثمانى الكبرى الذى سيعقد فى أيرلندا الشمالية فى 17 يونيو المقبل.
فهل ستدفع الضغوط التى تتعرض لها كل من روسيا وأمريكا من ناحية، وما تعانيه الأطراف المباشرة ودول الجوار من ناحية أخرى، إلى حمل القوتين العظميين على البحث عن مخرج للأزمة وذلك قبل أن يتدهور الوضع بالمزيد وتدخل الفوضى طريق اللاعودة؟
مساعد وزير الخارجية الأسبق للشئون الأمريكية