سباق المكانة بين الدول الإقليمية - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 8:47 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سباق المكانة بين الدول الإقليمية

نشر فى : الخميس 13 أغسطس 2015 - 9:25 ص | آخر تحديث : الخميس 13 أغسطس 2015 - 9:25 ص

أمريكا وروسيا تصوتان لصالح قرار فى مجلس الأمن يتسبب تنفيذه فى ضرر للنظام الحاكم فى سوريا. من ناحية أخرى كيرى ولافروف يلتقيان مرات عدة فى عواصم مختلفة، عربية وغير عربية، خلال أقل من أسبوع، ويتنافسان على من يرسم على وجهه أحسن تعبير للتفاؤل. أمريكا تراجعت قليلا فى موقفها من شخص الرئيس الأسد ودوره فى المرحلة القادمة، وتتشدد فى المساومة مع تركيا حول المنطقة الآمنة واستمرار حربها ضد الأكراد. روسيا تدعم أمريكا ضد تجاوزات أردوغان وتشجع المملوك، رجل الاستخبارات السورية، على السفر إلى الرياض. هل جاء التشجيع الروسى بعد صدور تلميح من دمشق أم أن التلميح صدر من الرياض ضمن مؤشرات غير قليلة عن تغيير فى السياسة الخارجية، أم جاء نتيجة من جملة نتائج متوقعة لتوقيع اتفاق فيينا بين ايران والدول الكبرى. المعارضة السورية مطلوبة للمثول فورا، فى موسكو وليس فى تركيا، وشائعات فى دمشق رددتها بيروت عن وجود وفد مصرى فى دمشق غابت التفاصيل عن مهمته وتكوينه.

عديد الأسئلة الجديدة، الحقيقية والشكلية، تملأ الأجواء الإعلامية ولا تجد إجابات صريحة. أكثر الأسئلة تركز على اتصالات مكثفة تدور بين دول فى الخليج ودول أخرى فى الخليج، وبين دول فى الخليج ودول فى الخارج. تتضارب المعلومات عن موضوعات الاتصالات. هل غابت وحربها عن صدارة الأنباء بعد أن فتر اهتمام الخليجيين بالحرب. أم هى الدعوات المنهمرة على أهل الحكم والتجارة والمال فى دول الخليج العربى لحجز مكان مناسب فى زحام المسافرين إلى طهران. أم أن سوريا صارت بالنسبة للقوى الخارجية جاهزة لقرارات دولية تعلن تجميد خريطة الحرب تمهيدا لترسيخها على حالها خريطة سلم.

ادوار تصعد وأدوار تتهاوى أو تختفى. نعيش ربما لحظة نادرة فى تاريخ المنطقة. لحظة يبدو الشرق الأوسط امامنا فى شكل شريط صور تمر متسارعة. كل اللاعبين، أو قل الممثلين، يتحركون فى آن واحد فى اتجاهات متعددة ومتناقضة ولكن للغرابة فى أجواء من التفاؤل البارد أو لعلها الحماسة الباهتة. تدفعهم على الأرجح دوافع غير واضحة لنا بعد. نسأل، كما سألت قبل سطور قليلة، أيكون بين الدوافع احتمال ان القوم الكبار قد توصلوا إلى رسم خرائط لكيانات تعتمد على «بقايا» دول وتجمعات لاجئين، أو على الأقل اقتربوا من حلول مؤقتة لبعض أزمات المنطقة. هل يكون دافع تدخل القادة الكبار انتباههم فجأة إلى انهم اساءوا التصرف حين تركوا لفترة قصيرة شئون الحرب والسلم يديرها ويقرر فيها حكام الشرق الأوسط.

أظن ان قادة العالم الكبار ربما اكتشفوا ان الأوضاع فى الشرق الأوسط صارت تستدعى التدخل الحاسم من جانب روسيا وأمريكا لمنع القوى الإقليمية من التمادى فى حروب الوكالة، ومن التهور فى التعامل مع قضايا الأقليات والمذاهب بما يمكن أن يؤدى إلى تعميق الكارثة الإنسانية التى تكاد تعصف بملايين البشر وإبعادها قدر الامكان عن مواقع وأسباب التماس المباشر. بمعنى آخر أن تكون النية قد توفرت أخيرا فى كل من موسكو وواشنطن للعودة إلى سياسات الإشراف عن قرب على مجريات الأمور فى الشرق الأوسط، وفرض نوع أو آخر من أنواع التعاون الإقليمى يقلل من فرص تهور القوى المحلية.

•••

ليس من باب المصادفات أن تأتى هذه التحركات الدبلوماسية فى اعقاب التوقيع على اتفاق «فيينا» بين إيران والدول الكبرى، كما أنه ليس من المبالغة القول إن اصداء هذا الاتفاق قد تجاوزت كل التوقعات. كادت الأصداء تجعل من فيينا ٢٠١٥ المقابل بامتياز لفيينا ١٨١٥، لم يدر بخلد أحد ان يأتى يوم تجرى المقارنة فيه بين مؤتمر ضم الدول الامبراطوريات الأعظم المنتصرة على فرنسا، وهو المؤتمر الذى وضع أسس نظام دولى وقواعد علاقات دولية استمرت قرنا ونصف القرن، مع مؤتمر ينبثق عنه اتفاق بين دول كبرى ودولة من دول العالم الثالث، وينتج عنه، حسبما أذيع، قواعد لعلاقة محددة تقتصر على اجراءات تهدف إلى منع دولة اخرى من العالم الثالث من امتلاك سلاح نووى. لم يتضمن الاتفاق قواعد سلوك دبلوماسى أو سياسى معين، ولا ترتيبات إقليمية، ولم ينشئ أو يفض تحالفات، ومع ذلك، حظى الاتفاق مع إيران على اهتمام وشجع اجتهادات وتوقعات مازالت تثير العديد من علامات الاستفهام والاستغراب.

•••

اجتهد مجتهدون ولم يصلوا إلى تفسير مقنع. الشرق الأوسط بدون شك اقليم له اهميته الاستراتيجية الفائقة لموقعه وثرواته الطبيعية والمالية، ولتاريخه الخصب والممتد طولا وعرضا وعمقا. ومع ذلك لا أحد من المجتهدين يعتقد ان الشرق الأوسط قادر بأزماته أو بقوته الذاتية على «قصم ظهر» النظام الدولى أو على اختراق تفاعلاته بالقدر الذى يمكن ان يهدد الأمن والسلم الدوليين. فى الوقت نفسه بدأ يبدو لنا كما لو ان كلا من روسيا وأمريكا، وبخاصة روسيا، شعرتا أخيرا بأن الحسم العسكرى الذى انتظراه لم يقع، وان حكومة الأسد صارت اضعف من ان تستعيد الأراضى التى فقدتها، وان سقوط الأسد وحكومته يعنى حتما اشتداد الحرب واشتعال جميع الجبهات، وفى النهاية انفراط سوريا إلى كيانات تنشأ بحكم الواقع وعناصر القوة وليس لدولة كبرى فضل فى قيامها وحق فى توجيهها، بعضها سيكون إرهابى الطبع والتسلح والأهداف، وقد يهدد ان آجلا أم عاجلا سلام واستقرار بلاد القوقاز ومناطق أخرى فى جنوب الاتحاد الروسى، وكلها ستفرض وجودها شاءت القوى الدولية والإقليمية أم أبت.

•••

ليس غريبا عن دارسى العلاقات الدولية وممارسيها ان تقوم دولة عظمى بمساعدة دولة خصم أو دولة منافسة على تحقيق بعض أهدافها واحتلال مكانة مناسبة. أظن أن شيئا من هذا هو الذى تفعله الآن الولايات المتحدة باتفاقها مع روسيا حول أهمية التحكم فى مسارات الأزمة السورية قبل ان ينفرط عقدها نهائيا، أو قبل أن تتصادم إرادات دول إقليمية ساعية للهيمنة على دول وكيانات القلب، أو قبل أن تتوسع وتتعمق خلافات الأنظمة الحاكمة العربية حول قضايا المكانة والريادة وتوزيع الثروة وتصفية آثار ثورة الربيع العربى، أو، ولعله الأخطر من وجهة نظرى، قبل اشتعال نيران حرب مذهبية لن تعترف بحدود أو تراعى خلقا وتحضرا. قد تتوقع أمريكا من روسيا مقابلا تدفعه فى أوكرانيا، ولكن المؤكد الآن من شواهد اللقاءات هو أنها نجحت فى استدراج روسيا إلى جهة أولوية العمل ضد الإرهاب، وتأجيل خلافهما حول مستقبل الرئيس الأسد.

•••

من حق الدول الكبرى، ويتصادف وجوده مع حق شعوب الشرق الأوسط، الشعور بالقلق من احتمال أن يستمر الخلاف طويلا بين المملكة السعودية وإيران. يعتقد بعض قادة التفكير فى الغرب أن المنطقة سوف تشهد سباقا بين دول إقليمية كبيرة على «المكانة» التى تعتقد أنها تستحقها، بينما السائد حتى الآن بين معظم حكومات المنطقة أن إيران لا يحق لها احتلال «مكانة» متميزة فى قيادة النظام الإقليمى. ففى ظن القادة العرب أنه لا يزال نظاما عربيا، ناسين أو متناسين أن أكثرهم هم الذين أهملوا فى قيادته ولم يحترموا مبادئه ولم يدافعوا عن آمنه ورفضوا تكامله، أى رفضوا أن تتقدم الأمة وتقوى اقتصاديا، فضلا عن أنهم حرموا أجيال هذه الأمة جيلا بعد جيل من حقوقها فى الكرامة والحرية والعدالة والمساواة.

•••

فى وقت مضى كان لدى بعض الدول العربية خطط متفرقة أو استراتيجية وفى الغالب أمنية فقط لمواجهة مسعى إيران للحصول على اعتراف لها بحق الوجود السياسى فى النظام العربى. أتصور أنه فى اليوم الذى أعلن فيه توقيع اتفاق فيينا سقطت هذه الاستراتيجية، تنفيذا للمقولة الشائعة «أن لكل ملاكم استراتيجية حتى اللحظة التى يتلقى فيها الضربة القوية فى وجهه». كان اتفاق فيينا بالفعل إحدى هذه الضربات القاصمة التى تلقاها عدد من حكومات الدول العربية فى الآونة الأخيرة، وعندها تعطلت إن لم تكن سقطت استراتيجياتها وأغلب خططها التقليدية تجاه الموضوع الإيرانى.

•••

السباق على المكانة مستمر، وفى تصورنا أنه مثل أى سباق على «مكانة» دولية يمكن أن يدار بثلاثة أساليب. هناك أسلوب الحروب المباشرة بين الدول المتسابقة، وهناك ثانيا أسلوب الحروب بالوكالة، وهذ الأسلوب جارٍ بالفعل تجربته حاليا فى سوريا ولبنان واليمن كما فى العراق وغيرها، وإن بأدوات مختلفة مثل الارهاب ودعم منظمات التطرف الدينى وتخريب مؤسسات الدولة وإفساد الحكام وشن الفتن فى صفوف الطبقة والعائلات الحاكمة وتعميق الخلافات المذهبية.. وهناك أسلوب الدبلوماسية والتجارة، وهذه لم يجربها بعد المتسابقون فى الإقليم الا نادرا، رغم أنها التجربة التى تشيد بها الولايات المتحدة على لسان الرئيس أوباما، ويشيد بها الروس على لسان لافروف والرئيس بوتين، وتحظى بدعم ومساندة أغلب حكومات العالم، كما هو واضح الآن من كثافة الاتصالات الخارجية بين إيران ودول عديدة، فى مقدمتها الهند والصين اللتان تتسابقان على الطرق الآمنة نحو أفغانستان ووسط آسيا ومنها إلى بقية أوراسيا.

•••

أخشى مع من يخشون أن يكون هناك فى أمريكا وبريطانيا وهنا فى الشرق الأوسط من يفكر فى تنشيط العامل المذهبى فى السباق الحالى على «المكانة» بين السعودية وإيران، وآمل مع من يأملون أن ينشأ تحالف غير موثق أو معلن بين عقلاء الإقليم يرفض استخدام هذا العامل ويحشد جماهير صانعى الرأى وراء التزام الحكام جميع بأسلوب الدبلوماسية والتجارة فى السباق على المكانة.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي