بقعة الزيت تنتشر فى أسابيع معدودة، شهدت ثلاثة بلدان عربية جديدة حركات احتجاج شعبية يجمع بينها رفض سياسات التقشف التى تعتمدها حكوماتها بتوجيه من صندوق النقد الدولى. بعد السودان والاردن ها هى فلسطين تتحرك الآن ضد رفع أسعار المحروقات وضريبة القيمة المضافة على أسعار السلع الغذائية الأساسية فى الضفة الغربية. وزاد الامر تأزما بسبب عجز الحكومة الفلسطينية عن دفع الرواتب والأجور عن شهر أغسطس الماضى لموظفى القطاع العام.
لمن يحتاج إلى من يذكره: هكذا بدأت كل الانتفاضات العربية... بالاجتماعى وصولا إلى السياسى، بالاحتجاج على الغلاء والفساد إلى إسقاط الأنظمة.
●●●
انطلق الاحتجاج الفلسطينى من اضراب لقطاع النقل شل المدن الرئيسية، وتضمن هجمات للمتظاهرين على مبان حكومية وقطع طرقات واحراق دواليب ولم يخل الامر من صدامات بين المتظاهرين وقوى الأمن سقط فيها جرحى. يطالب المتظاهرون والمضربون بوقف العمل باتفاقية باريس لنيسان العام ١٩٩٤ بين السلطة الفلسطينية ودولة الاحتلال التى يتعهد فيها الطرف الأخير بيع المحروقات إلى اراضى السلطة بسعر ينقص بنسبة ١٥٪ أقل من السعر الإسرائيلى الرسمى. لم تفِ السلطات الإسرائيلية بتعهداتها: رفعت سعر المحروقات التى تبيعها لـ«الأراضى الفلسطينية» من طرف واحد.
الاضراب مستمر ومعه أعمال الاحتجاج وقد اعلنت اتحادات المعلمين والأطباء ونقابة الموظفين العموميين الانضمام إليه. فى غزة تصرف زعماء «حماس» على اعتبار ان ما يجرى يخص السلطة والضفة وحدهما، مع ان غزة كان لها «بو عزيزى» خاص بها فى شخص الشاب ايهاب ابو ندى الذى أحرق نفسه احتجاجا على البطالة والغلاء والفساد.
ولسائل أن يسأل بقدر من السذاجة: كيف يحصل ان اغنى منطقة فى العالم بالنفط ومشتقاته تعانى كل هذه المعاناة الشاملة من ارتفاع أسعار المحروقات على مواطنيها؟
●●●
مهما يكن، تقُل التحركات الفلسطينية الكثير عما آلت اليه الامور ليس فقط فى ظل تطبيق املاءات المؤسسات المالية الدولية، وانما عن اتفاق أوسلو ذاته فى شقه الاقتصادى الذى نادرا ما يؤتى على ذكره مع انه يرسى الاساس المادى للاستتباع السياسى والسيادى للاراضى الفلسطينية تجاه دولة الاحتلال. فالاتفاق يكرس اندماج الأراضى الفلسطينية جمركيا واقتصاديا بالاقتصاد الإسرائيلى ويؤسس لقيام مستعمرة غير معلنة ترتبط جوا وبحرا وبرا وعملة واستيرادا وتصديرا واقتصادا بإسرائيل. المخارج الرئيسة للاراضى الفلسطينية إلى الجوار والعالم هى المعابر والمرافئ والمطارات الإسرائيلية. والعملة الرسمية فى الأراضى الفلسطينية هى الشيكل الإسرائيلى. تستورد الأراضى الفلسطينية معظم مستورداتها عن طريق إسرائيل. وبرغم ان الاتفاقية الاقتصادية تقضى بحرية التجارة، وبالانتقال الحر للسلع والبضائع بين إسرائيل وأراضى السلطة، الا ان السلطة الفلسطينية تحتاج إلى إذن مسبق من السلطات الإسرائيلية لاستيراد السلع التى تستوردها. وبحسب بروتوكول باريس ذاته تنفرد إسرائيل فى وضع الرسوم الجمركية على السلع المستوردة من قبل السلطة الفلسطينية وزيادتها من طرف واحد. فى المقابل، فإن ٨٥٪ من الصادرات الفلسطينية تصدر لإسرائيل. ومن إسرائيل تستجر الأراضى الفلسطينية الكهرباء ومنها تتمون بالمحروقات. فتبيع إسرائيل المحروقات للسلطة فتفرض هذه رسومها والضرائب التى تسهم فى تغطية النفقات العالية للسلطة وأبرزها لدفع رواتب الموظفين.
وللمناسبة ذاتها، فإن الحراك الشعبى الحالى يعيد تذكيرنا بأن السلطة الفلسطينية ذاتها «نظام»: نظام عربى لا يختلف كثيرا عن سائر الأنظمة العربية المتحدرة من حركات التحرر العربية. يرتكز على شراكة بين سياسيى حركة فتح بالدرجة الأولى ورجال اعمال الشتات وقادة أجهزة الأمن. سوف يقال: ومثله مثل سائر الانظمة الجمهورية العسكرية الاستبدادية، يجمع النظام الفلسطينى الانفراد والسلطوية خصوصا بعد الغاء انتخابات نيابية جاءت بالمعارضة إلى السلطة واسهمت فى الانقسام الفلسطينى الجغرافى والسياسى إلى التوجهات النيوليبرالية يجسدها ويمارسها رئيس وزرائه سلام فياض. وفوق توجد فى الأراضى الفلسطينية تنظيمات معارضة قومية ويسارية لا تتخطى كثيرا دور «معارضة صاحبة الجلالة». ويمارس رأسماليو الشتات، فى ظل هذا النظام، ما يكفى من الضغوط لتغليب القطاعات المصرفية والاستيرادية والعقارية على حساب الصناعة والزراعة، ويروجون لمقولة ان التحالف الاقتصادى الإسرائيلى الفلسطينى هو أسلم طريق للسلام بين الشعبين... الخ. ولا بد من القول ان الرأسمالية الحمساوية المؤمنة فى غزة ليست بأوفر حالا وهى تفبرك حديثى النعمة يراكمون الثروات عن طريق تهريب السلع والبضائع عبر الانفاق العابرة للحدود مع مصر.
●●●
لم تخطئ الجماهير العربية المنتفضة مرة الحساب بالنسبة للمسألة الوطنية. لم تتحرك الجماهير ضد النظام السورى الا بعد جلاء الاحتلال العسكرى الأمريكى عن العراق. وبعدما تكشف انهيار سياسات الممانعة والمأزق الرسمى الكامل فى قضية تحرير الجولان. وهذه اول مرة تضرب جماهير فلسطينية وتتظاهر ضد السلطة الوطنية بهذا القدر من الاتساع والحدة. لم يخطئ حسها الوطنى. لم تتحرك الا فى مناخ من الاستنقاع الكامل للمفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية ومن وصول «العملية السلمية» إلى مأزق جراء اطاحة السلطات الإسرائيلية بالقسم الاوفر من بنود اتفاق اوسلو، ورفضها الانسحاب من المناطق المتفق عليها، وتنفيذها سياسة قضم الاراضى عن طريق الجدار وعن غير طريقه، وزحف الاستيطان والتهويد وسواها. إلى هذا يجب ان تضاف ثلاث ظواهر:
● انهيار خرافة الوسيط الأمريكى النزيه، واكتشاف المفاوضين الفلسطينيين انهم يفاوضون وفدا أمريكيا ــ إسرائيليا مشتركا.
● الاستهتار الإسرائيلى والأمريكى الكامل بمبادرة السلام العربية، المنسوبة للملك عبدالله بن عبدالعزيز. وقد بات الجواب التصعيدى على مبادرة تقول بالسلام الكامل فى مقابل عودة جميع الاراضى المحتلة عام ١٩٦٧ هو الدعوة إلى الاعتراف بإسرائيل بما هى دولة يهودية.
● الاستغلال الإسرائيلى للنزاع الخليجى ــ الايرانى للدفع بسياسة نتنياهو الرامية إلى تحويل العداء لايران إلى العداء الرئيسى فى المنطقة بدلا من العداء لإسرائيل.
لا شك فى انه يدور فى خلد قادة فلسطينيين التذرع بذريعة الاستثناء التى ساورت كل حاكم عربى قبلهم، فكيف اذا كان الاستثناء هو فلسطين؟ والى ذريعة الاستثناء تنضاف الخورجة والتسييس. فى مجال التسييس، بدأ الحديث باكرا عن توظيف الحراك الشعبى فى الخلافات بين اجنحة حركة فتح. اما الخورجة فيلتقى عليها رئيس السلطة ورئيس الوزارة: الاول يعزو الازمة المعيشية إلى حصار تفرضه دول عربية لم يسمها، والثانى يعزو الازمة إلى سبب وحيد هو الاحتلال.
بناء عليه، تطالب السلطة الفلسطينية سلطات الاحتلال باعادة مناقشة اتفاقية باريس الموقعة فى نيسان ١٩٩٤، وهى بمثابة اتفاقية اوسلو الاقتصادية، بغرض تعديلها. رد الفعل الاول للمسئولين الإسرائيليين هو التشكيك فى جدية الطلب. والتساؤل الاول على هذا الطلب هو: هل يمكن تغيير أوسلو الاقتصاد من دون المساس بأوسلو السياسة والسيادة؟ فالحرمان الذى تعانيه جماهير فلسطين فى حقوقها الاقتصادية والاجتماعية ليس اسوأ من الحرمان الذى تعانيه فى حقوقها الوطنية. ولعل السلطة فى اثارتها مسألة اوسلو الاقتصادى كمن جاء بالدب إلى كرمه.
●●●
فإذا كان التسييس والخورجة هما كل ما تملكه السلطة للتعاطى مع أزمة بطالة وغلاء معيشة وفساد وسياسات تقشف تطبق على الاكثرية لحماية الثراء الفاحش للاقلية المتناقصة، يرجح ان التحركات الشعبية سوف تتصاعد، جريا على ما تعلمناه من انه ما من حاكم عربى افاد من اخطاء زميل له. فاذا لم تشكل السلطة الفلسطينية استثناء فى هذا المجال، فلن نستغرب ان يسير السياسى والسيادى فى ركب الاقتصادى، وان تتعالى قريبا هتافات تقول: «الشعب يريد إسقاط أوسلو».
ينشر بالاتفاق مع جريدة السفير اللبنانية