لم يشفع لأوباما، لدى الناخبين الأمريكيين، نجاحه فى تمرير قانون الرعاية الصحية الذى وسع من مظلة التأمين الصحى لتشمل 47 مليون أمريكى جدد حرموا فى السابق من أية رعاية. كما لم يعصمه من النقد تمكنه من إدخال إصلاحات مالية أدت إلى تحجيم آثار الأزمة الاقتصادية، وإنقاذ صناعات رئيسية، ومؤسسات مالية كانت على شفا الإفلاس، وحماية ممتلكات كان أصحابها على وشك فقدانها، وكذلك الحد من جشع مديرى الشركات وفضح أساليبهم الملتوية. ولم يحمه نجاحه فى إبرام اتفاقية مهمة جديدة للحد من الأسلحة الإستراتيجية مع روسيا، أو سعيه الحثيث لتوفير الأمان النووى، من الهجوم وسحب الثقة من حزبه.
وعلى الجانب الآخر أغفل الناخبون الأمريكيون، أو لعل ذاكرتهم قد خانتهم، حقيقة أن معظم المشكلات التى لا يزال يعانى منها الاقتصاد الأمريكى سواء تضخم الدين العام أو ارتفاع نسبة البطالة، لم تكن من صنع أوباما، إنما ورثها عن إدارة جمهورية زجت بالولايات المتحدة فى آتون حروب كلفتها حتى الآن أكثر من ألف مليار دولار، ولا يعلم إلا الله متى وكيف سوف تنتهى، وانحازت إلى الأغنياء على حساب من هم أقل حظا، ولم تضع أى ضوابط لكبح نظام رأسمالى منفلت لن يتورع عن دهس كل من يعترض مسيرته المظفرة
.
على أى حال فقد قال الشعب الأمريكى كلمته يوم 2 نوفمبر، وحصل الجمهوريون على الأغلبية فى مجلس النواب، وكاد يتحقق لهم ذلك فى مجلس الشيوخ. وسيكون على الرئيس الأمريكى أن يتعامل مع هذا الوضع الجديد الذى يمكن أن يؤدى إما إلى صدام يترتب عليه جمود كامل، أو ينجح الطرفان فى الوصول إلى كلمة سواء تضع المصلحة العامة فوق كل اعتبار.
طبيعى أن ما يعنينا فى المقام الأول، هو تأثير هذا التغير فى ميزان القوى على قضيتنا، وهل ستؤدى التركيبة الجديدة فى الكونجرس إلى تهميش لمشكلة الشرق الأوسط، أو إلى أن تركن إسرائيل إلى أغلبية جمهورية متعاطفة تحميها من ضغوط الإدارة، أم أن أمريكا ستغض الطرف عما قد تقدم عليه إسرائيل من مغامرات؟ تطرب إسرائيل كثيرا وهى تعتقد أن الإجابات عن كل هذه التساؤلات ستكون بالإيجاب.
غير أن حقيقة الأمر ليست على هذه الدرجة من البساطة. فالشئون الخارجية عموما هى اختصاص أصيل للرئيس الأمريكى، وإدارته لدفة السياسة الخارجية إنما تقع فى نطاق صلاحياته، وأكثر من هذا فإن ممارسته لهذه الصلاحيات لن يحد منها، مشكلات تشريعية أو مالية مثل تلك التى عليه أن يواجهها عندما يتعامل مع الشأن الداخلى.
تعجبت من ردود الأفعال فى إسرائيل على نتائج الانتخابات الأخيرة، ومدى قصر النظر وضيق الأفق فى تقييم الأمور واختزالها كلها فى مدى تعاطف هذا العضو من الكونجرس أو ذاك مع إسرائيل. أما أمور السلام والاستقرار فى المنطقة فقد غابت عن ذهن العديد من المحللين والمعلقين بالإضافة إلى الناطقين باسم اللوبى الإسرائيلى فى أمريكا. دفع هذا تسيبى ليفنى زعيمة حزب كاديما لأن تعلن فى الكنسيت غداة ظهور نتائج الانتخابات بأنه يبدو أن الجميع فى إسرائيل قد أصابهم مس من الشطط والجنون عندما رأوا فى خسارة أوباما كسبا لنتنياهو مضيفة أن وجود رئيس أمريكى ضعيف لن يكون أبدا فى صالح إسرائيل.
أعود إلى كيفية تعامل اللوبى الإسرائيلى فى الولايات المتحدة مع نتائج الانتخابات. أصدرت الإيباك الممثلة الرئيسية للوبى الإسرائيلى بيانا عبرت فيه عن مدى ابتهاجها بما آلت إليه الأمور، ومعلنه أن العديد من أصدقاء إسرائيل قد تم انتخابهم أو إعادة انتخابهم للكونجرس الجديد الذى «سيحافظ على تقليده الراسخ فى مساعدة إسرائيل الحليف الأقوى الذى يمكن الاعتماد عليه فى المنطقة». وعددت الإيباك أسماء أعضاء النواب والشيوخ المتعاطفين والمؤيدين لإسرائيل مثل السناتور هارى ريد زعيم الأغلبية الديمقراطية بالشيوخ، وعضو النواب جون بونر الذى سيتولى زعامة الأغلبية الجمهورية فى مجلس النواب، كما أشادت بانتخاب ثلاثة أعضاء جدد فى الكونجرس من اليهود هم السناتور ريتشارد بلومنتال وعضو النواب ديفيد سيسيلين وكذلك عضوة النواب نان هايورث.
أما صحيفة الجيروزاليم بوست فقد رفضت فى افتتاحيتها تعليقا على الانتخابات مقولة أن سياسات أوباما الاقتصادية كانت السبب الأوحد لخسارة حزبه فى الانتخابات، مؤكدة أن الشئون الخارجية لعبت دورها فى هذا الشأن وبخاصة سياسة أوباما فى الشرق الأوسط. واستطردت الصحيفة إلى القول بأن الأمريكيين يريدون دائما أن يكون الرئيس الأمريكى مواليا لإسرائيل.
ثم قامت الصحيفة برسم خطة طريق كى يستعين بها أوباما فى المرحلة المقبلة، أولى خطواتها هى الوقوف فى وجه قيام الفلسطينيين بإعلان دولتهم، والخطوة الثانية تتمثل فى زيارته لإسرائيل، أما الثالثة فهى أن يتبع العقوبات المفروضة على إيران بتهديد عسكرى له مصداقية!
فى مقابل هذا قامت منظمة J. street (وهى منظمة يهودية تحرص على تحقيق السلام جنبا إلى جنب مع تعاطفها مع إسرائيل) بإجراء استطلاع للرأى يوم إجراء الانتخابات. أظهر هذا الاستطلاع أن 66% من اليهود الأمريكان صوتوا فى صالح الديمقراطيين، وأن 53% منهم أيدوا الطريقة التى يتعامل بها أوباما مع صراع الشرق الأوسط، كما أن 83% منهم طالب بقيام الولايات المتحدة بدور أكثر نشاطا لحل مشكلة الشرق الأوسط.
سيمر إعصار الانتخابات فى طريقة، وعندئذ سيقوم الحزب الديمقراطى بحصر خسائره وتضميد جراحه، وتبين مواقف الضعف التى أصابته، أو مواطن القوة التى سيكون عليه أن يركز عليها فى الفترة المقبلة. لن يتقبل أوباما أو حزبه نتيجة الانتخابات النصفية على أنها نهاية المطاف، أو أنها مقدمه لخسارة الانتخابات الرئاسية والتشريعية بعد عامين. وتملك الإدارة الديمقراطية فى أيديها ورقة رابحة باستمرار وهى تحذير الناخبين من العودة إلى السياسات الفاشلة التى انتهجها بوش وإدارته الجمهورية سواء فى الداخل أو الخارج.
من ناحيتنا علينا أن نعد أنفسنا للتعامل مع الوضع الجديد. سيكون علينا أن «نستعيد» أوباما الذى استبشرنا به خيرا عندما تولى الحكم، وعندما ألقى خطابه الشهير بجامعة القاهرة. حينئذ أكد إيمانه بالعدالة، وتمسكه بالشرعية، واحترامه لديننا الإسلامى الحنيف. أوباما الذى تبنى قضية السلام فى الشرق الأوسط من اليوم الأول واعتبرها لصيقة الصلة بالمصالح القومية الأمريكية، وتطلع إلى أن تحتل دولة فلسطين مكانها الطبيعى بين بقية الأمم المستقلة فى الأمم المتحدة عام 2011. ربما سيكون علينا أن نبرز معالم الطريق التى تتمشى مع قناعاته الأصيلة، ولعل أولى هذه المعالم الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وآخرها التطبيق الكامل لمبادرة السلام العربية.
ربما كان فى تحقيق أوباما لإنجاز تاريخى فى الشرق الأوسط ما يعوضه عن الخسائر التى منى بها فى الداخل. ولا يخالجنى أدنى شك فى أن نجاح أوباما فى تحقيق اختراق جدى فى أزمة الشرق الأوسط سيجعله جديرا بالفعل بجائزة نوبل للسلام التى حصل عليها فى وقت مبكر من ولايته