قبل ساعات قليلة من إعلان نتيجة الانتخابات الأمريكية، كانت معظم التوقعات تشير إلى فوز هيلارى كلينتون، كانت النتيجة تبدو محسومة مقدما، فلو تمكنت هيلارى من الفوز بالولايات التى عادة ما تصوت للديمقراطيين فى الانتخابات الرئاسية، فإنها ستحصل على فوز مريح يمكنها من دخول التاريخ كأول امرأة تحكم الولايات المتحدة! استطلاعات الرأى والتى تتمتع فى الولايات المتحدة بسمعة كبيرة ودقة مشهودة، كانت أيضا تشير إلى فوز مريح للغاية لهيلارى، موقع ٥٣٨ الشهير خرج بنتيجة نهائية مؤداها أن هيلارى ستفوز بـ ٣٠٢ مقعد فى المجمع الانتخابى رغم أنها لا تحتاج سوى إلى ٢٧٠ مقعدا فقط، استطلاعات الرأى المرتبطة بمراكز الأبحاث وبعض وسائل الإعلام كانت تضع نسبا تتراوح بين الـ٧٠% و الـ٩٠ ٪ لفوز هيلارى، بدا يوم الثلاثاء الماضى على أنه مجرد يوم للاحتفالات الصاخبة للديمقراطيين ولكن بحلول المساء كان كل شىء يتم قلبه رأسا على عقب!
بالإضافة إلى الولايات التقليدية التى تعد معقلا للجمهوريين فإن ترامب تمكن من الفوز بمعظم الولايات المتأرجحة بل وببعض الولايات التى عادة ما تصوت للديمقراطيين! كان ملفتا للنظر أن بعض مقاطعات الأمريكان من أصل أفريقى صوتت لترامب، فلوريدا حسمت أمرها لترامب، حتى ولايات مثل ويسكنسون وميتشيجان، لم تعط أصواتها لهيلارى! (حتى وقت كتابة هذه السطور فإن ولاية ميتشيجين لم تحسم بشكل رسمى لمشاكل وأخطاء فى العد ولكن مازال ترامب متقدما فيها)!
***
قبل أيام قلائل من الانتخابات استضافت جامعة دنفر أستاذا شهيرا فى دراسات الشرق الأوسط والشأن الإيرانى متحدثا عن التغيرات فى إيران وسياسات الولايات المتحدة تجاه إيران والشرق الأوسط، وكان يبنى تحليله بالكامل على فوز هيلارى الذى بدا محسوما فى رأيه!
قبل ذلك بشهر تقريبا استضافت الجامعة نائب الرئيس الأمريكى، جون بايدن وفى حفل العشاء أعطى كلمة رنانة مطولة عن انجازات الديمقراطيين وعن حسم الانتخابات الرئاسية فى نوفمبر لصالح هيلارى «بلا شك»! قد تبدو كلمة حماسية مفهومة، لكن بعدها كان الحديث حتى بين الأساتذة المحافظين الذين يميلون للحزب الجمهورى أن هيلارى ستتمكن من الحسم!
كان المجتمع الأكاديمى والإعلامى والدبلوماسى يتوقع بوضوح نجاح هيلارى اعتقادا بأن «الرشادة» ستكون هى سيدة الموقف! فقد كان هناك اعتقاد راسخ بأن المجتمع الأمريكى رشيد وأن خيارات الناخب رشيدة وأن التوقعات والتحليلات التى بنى عليها هذه التوقعات هى بالضرورة رشيدة!
نظرية الرشادة واحدة من أهم النظريات التى تحكمت فى تشكيل وعى الأكادييمين الغربيين وبالتالى الشرقيين خلال القرن العشرين وارتبطت بالثورة السلوكية فى العلوم الاجتماعية خلال القرن الفائت. تفترض النظرية بتبسيط قد يكون مخلا أن صناع القرارات بالإضافة إلى المواطنين والفاعلين فى الشأن العام لديهم حد أدنى من الرشادة لتحديد خياراتهم السياسية والاقتصادية ومن ثم يتمكن الفاعلون السياسيون من تعظيم مكاسبهم وتقليل خسائرهم وهو ما يؤدى بالضرورة لازدهار الشأن العام.
جاءت نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية لتكون بمثابة صدمة شديدة وهزة للمجتمع الأكاديمى ولافتراضات الرشادة التى تشكل وعى المعلقين والمحللين! نتيجة الانتخابات الرئاسية فى الولايات المتحدة مثلها مثل نتيجة استفتاء بريطانيا بالخروج من الاتحاد الأوروبى أثبتت أن تحويل دراسة الظاهرة السياسية إلى أرقام تضرب وتطرح وتقسم فى شكل معادلات رياضية تدعى القدرة على توقع مستقبل الظواهر السياسية هو أمر قاصر تماما ويحتاج إلى إعادة نظر!
إعادة الاعتبار إلى الدراسات الميدانية التى تعتمد على مراقبة الظاهرة محل الدراسة والتعايش معها بغرض قراءتها لا تحويلها إلى سلعة تباع للجماهير وترضى غرور الفكر «الرشيد» أصبح أمرا لا مفر منه إذا أراد الباحثون والمحللون إعادة الاعتبار إلى قيمة أبحاثهم وتحليلاتهم!
التواضع واعتبار أن قدرة أدوات البحث العلمى المتاحة حالية هى «القراءة» أو «الملاحظة» أو «التحليل المحدود» دون ادعاء القدرة على التوقع هو أيضا أمر مهم لإعادة قيمة البحث العلمى ولإعادة الثقة مرة أخرى للبحث العلمى من قبل الرأى العام.
***
أحد أهم تفسيرات مفاجأة الانتخابات الأمريكية أن الناخب الذى وجد أن خياره الانتخابى غير محبذ من قبل المجتمع والرأى العام قرر أن يتظاهر بالتصويت للخيار «المشهور» بينما وأمام الصندوق فقد كتب خياره الحقيقى. فقد وجد بعض الناخبين ضغوطا فى التعبير عن خيارهم الحقيقى لأنه موصوم بالجهل أو ارتبط بالفئات غير المتعلمة أو غير المتحضرة، ولكنهم فى النهاية قرروا الاختيار الحر أمام الصناديق.
تشير النتائج الأولية أنه ليس صحيحا تماما افتراض أن الفئات التى اختارت أوباما هى فئات غير رشيدة، والأصح إلى أن توضح الصورة أنها فئات غاضبة من النظام الأمريكى القائم منذ ٨ سنوات. فكرة اختيار رئيس من الأقلية أو الفئات الأقل حظا لم تبدُ أنها ارتبطت بتغيرات ناجحة من وجهة نظر بعض الناخبين الذين يرون أن اختيار أوباما لم يحدث فرقا كبيرا فى السياسات ولا فى أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية، وبالتالى لم يرق للكثيرين فكرة اختيار امرأة! وخصوصا إن كانت هذه المرأة محسوبة على النخب القديمة (سيدة أولى ووزيرة خارجية سابقة)، وهناك اعتقاد آخر أن البعض لم يرقه منذ البداية أن تحكمه امرأة من الأساس وقد كان ذلك حاضرا بقوة خلال الحملة الانتخابية لكلا المرشحين!
***
علم السياسة مازال يلهث وراء الظواهر السياسية لقراءتها وفهمها ويحتاج فى تقديرى إلى ثورة أخرى لا تقل عن الثورة السلوكية فى القرن الماضى لتطوير أدواته والتخلص من تلك البالية التى لم تعد قادرة على فهم أبسط الظواهر السياسية وهى السلوك الانتخابى للمواطنين.
يبدو أن المزاج العالمى يتطور بسرعة وأن القادة الشعبويين قادرون على انتزاع آهات الجماهير وأصواتهم الانتخابية وهو ما يعنى أننا نحتاج وبشدة إلى إعادة نظر فى كل أدوات التحليل القادمة والعودة إلى مرحلة ما قبل الدراسات الكمية حيث الدراسات الكيفية التى تقيم حوارا مع البشر وتعتبر خياراتهم محل احترام وتحليل بعيدا عن الفرضيات النخبوية التى أثبتت فشلها.