مصر التى فى القلب - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 7:51 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مصر التى فى القلب

نشر فى : الخميس 14 يناير 2010 - 9:46 ص | آخر تحديث : الخميس 14 يناير 2010 - 9:46 ص

 كان لقاء على غداء، كلاهما فوق العادة. المكان خارج مصر والحضور متعدد الجنسيات والأعراق، بخلفيات سياسية متباينة وعقول منفتحة وثقافات شتى ومتابعة دقيقة لتطورات الأمور فى الشرق الأوسط. بدأ الحديث عند الظهيرة متشعبا، وعند الساعة الثانية استقر على قضية بعينها حتى انتهى اللقاء وغادر الضيوف. البعض منهم غادر إلى بيته والبعض الآخر إلى المطار عائدا إلى بلاده.

بدأ الحديث برأى أدلى به أحد الضيوف فى الرئيس أوباما. كان واضحا أن الضيف الذى تطوع ليكون البادئ بالحديث أراد توجيه ضربة استباقية لكل من ستسول له نفسه أن يكون الناطق باسم جماعة الخائب أملهم فى الرئيس الأسمر وفى إصلاحاته الداخلية وسياساته الخارجية.. قال إن أوباما فوجئ بالعقبات التى ظهرت فى طريقه الذى وعد بأن يسلكه فى حملته الانتخابية، وقرر أن يدخل تعديلات عليه،هذه التعديلات لا تعنى التخلى عن خططه وأهدافه فهى تعديلات تكتيكية الهدف منها إلهاء المعارضين من قادة الحزب الجمهورى والمنشقين داخل الحزب لديمقراطى والمترددين الجدد داخل إدارته وفى البيت الأبيض. وبحسب هذا الرأى فإن أوباما قد يمد فى عمر بعض مبادراته أو يرجئ تنفيذ خطواتها ولكنه فى كل الأحوال لن يخرج عن الهدف المرسوم.

توقعت أن توافق أغلبية الضيوف على هذا الرأى تأدبا، ولكن أيضا لأنها ربما لا تريد أن تعترف بالإحباط وما زالت تتمنى أن يحقق أوباما ما عجز أسلافه عن تحقيقه. كان بين الضيوف عدد من كبار المنتفعين من اقتصاد السوق وعدد من المنتمين للمبادئ الليبرالية فى السياسة وواحد ينتمى للتيار القومى وآخر للماركسى وثالث للدينى المعتدل. لم تصدق توقعاتى، إذ رفض عدد لا بأس به فكرة التكتيكية فى مسيرة أوباما وأعلن البعض بصراحة أن أوباما كان صادقا وفسد أو أنه كان شجاعا وجبن أو أنه كان حالما واستيقظ. المؤكد فى نظر هذا العدد من كبار المفكرين، وبينهم أجانب،أن أوباما انهزم فى أول مواجهة له مع قوى اليمين وانهزم فى أول اشتباك له مع إسرائيل، وأن اليهود نجحوا فى كسر بعض عظامه.

شعرت، والنقاش يدفع بالمترددين إلى التدخل، بحرص كل متحدث على أن يدفع عن نفسه تهمة اعتناق نظرية المؤامرة، حتى الضيف الذى كان يتحدث بموضوعية مطلقة عن معركة كسر العظام التى دارت بين أوباما وجماعات الضغط اليهودية لم يفته أن يعلن براءته من شبهة العداء للسامية ونظرية المؤامرة. إدعاء البراءة نفسه ورد على لسان المتحدثين عندما انتقلوا إلى موضوع الفتن الطائفية التى أصبحت فجأة علامة بارزة من علامات تدهور أوضاع الدول العربية خاصة والإسلامية عامة. قال أحد الحاضرين لا أستطيع أن أقبل بالرأى القائل بأن الأحداث التى وقعت فى صعيد مصر وفى ماليزيا وضد كنائس العراق والكنائس فى منطقة الأمازيغ فى الجزائر وفى السودان، وقعت كلها فى وقت واحد بالصدفة المحضة. ولم يدع متحدث آخر الفرصة تمر دون أن يجد رابطة ما تربط بين أحداث الفتن الطائفية والفتن المتشعبة فى السودان وفتن اليمن، وأن جميعها يندرج تحت العنوان الذى كانت تفضله كوندوليزا رايس، وهو «التدمير البناء».

فقد تحقق بالفعل، تدمير النظام العربى، بدلائل ليس أقلها أهمية الاختراق المنتظم والحثيث من جانب كل من تركيا وإيران للإقليم، ورفضهما الاطمئنان إلى قدرة الدول العربية، بحالتها الراهنة، على تحقيق الاستقرار فى الشرق الأوسط ووقف التهديد الصهيونى وإنقاذ شعب غزة وحلحلة القضية الفلسطينية وقصور أخرى كثيرة. ولم ينتقل الحديث إلى الموضوع التالى إلا بعد أن استأذن سياسى عربى مخضرم ليدلى برأى أصر على أن يعتذر عنه قبل الإدلاء به، قال إنه يعتقد بناء على شواهد وشهادات أن فروعا فى قطاعات الأمن مرتبطة بمصالح معينة هى التى تثير الفتن الداخلية فى دول بعينها ولا يستبعد أن ينكشف تورط شخصيات وتنظيمات شبه حكومية فى إشعال الفتن تماما أو التستر عليها وعلى مرتكبيها.. لم يعلق أحد.

****

عندئذ انتقل المتحدثون إلى دور مصر. لم يحدث الانتقال عن عمد فلم يوجد جدول أعمال ينظم اللقاء. مصر لم تكن غائبة عند الحديث عن أوباما وسقوط الرهانات العربية عليه، وكانت موجودة عند الحديث عن إسرائيل وكسر عظام خصومها فى أمريكا وتركيا وإيران وبريطانيا، وعند الحديث عن اختراق تركيا وإيران للمنطقة وسقوط النظام العربى، وشلل الجامعة العربية وعملها المشترك أو تدهور أدائهما، وكانت مصر موجودة عند الحديث عن إنقاذ شعب غزة والفتن الطائفية. كانت مصر موجودة فى كل موضوع من موضوعات النقاش، لذلك لم يكن غريبا أو متعمدا أن يحرص الجميع على أن تكون مصر محور حديثهم بقية اللقاء الذى امتد حتى المساء.

أحد الحاضرين، وكلهم بالمناسبة على دراية بشئون مصر وبخاصة دورها الإقليمى وأوضاعها الداخلية، قال إنه يعتقد أن ما يفعله النظام الحاكم فى مصر ينسجم مع تعبير استخدم فى بداية هذا اللقاء عن أوباما الذى اختار «مسالك تكتيكية»، بهدف إلهاء خصوم وتهدئة منشقين. النهج نفسه تسير عليه الحكومة المصرية منذ عقود ثلاثة. يستطرد الصديق الأجنبى قائلا: «لقد خلف الرئيس السادات «تركة استراتيجية» غير مسموح لمن يخلفه أن يمسها بالتغيير أو التعديل، وإلا انفرط عقد النظام أو تعرض لعقاب شديد من جانب الولايات المتحدة وإسرائيل ودول عربية راهنت جميعا على مستقبل سياسى واجتماعى معين لمصر. لذلك، يضيف الصديق، لم يكن فى وسع خلفاء الرئيس السادات إلا العمل تكتيكيا للمحافظة على التركة الساداتية ومنظومة العلاقات الخاصة مع إسرائيل، وهى علاقات رسمت بعناية وبدقة عالية. ويدافع الصديق عن سياسات مصر الراهنة بالقول إن عبد الناصر نفسه استخدم المنهج التكتيكى عندما وافق على التعامل مع مبادرة روجرز فى الوقت الذى كان يعد فيه البلاد لحرب يستعيد بها الأرض. ولم يستطرد لشرح دلالة المثال وما إذا كان يريد الإيحاء بأن النظام الحاكم فى مصر يعد العدة لتحرير منظومة علاقته مع إسرائيل ومنظومات أخرى فى علاقاته الخارجية. ومع ذلك فقد تدخل ضيف آخر ليعلق فقال «أظن أن النظام فى مصر غير مستعد للتخلى عن هذا المنهج فى صنع السياسة الخارجية، بل وأيضا الداخلية، لأنه النهج الوحيد الذى يسمح له بإعادة ترتيب الجزيئات والتلاعب بها وتشغيلها ضد بعضها البعض بشكل وأسلوب يخدم استمرار «مصر» فى الوضع الذى تركته صفقات الدبلوماسية والمعونات والضغوط والغزو السلفى التى أبرمت فى نهاية عهد الرئيس السادات».

تدخل الآخرون فطلب أحدهم مساعدته بالإجابة عن سؤال تعب فى البحث عن إجابة له، سأل: «ماذا تريد مصر من غزة؟.. هل مصر تريد غزة بدون حماس، هل تريد غزة ضمن دولة فلسطينية موحدة يحتفظ فيها كل قطاع بنظامه الخاص، هل ترفض أن تبقى غزة تحكمها حماس ولكن منزوعة السلاح والغذاء واللسان؟ هل صحيح أن مصر مستعدة لإقامة تعاون مع إسرائيل أوثق من التعاون القائم حاليا بينهما ضد إيران،وإذا دعت الضرورة ضد تركيا أيضا فى حال بالغت تركيا فى ممارسة موقفها المناهض للسياسة الإسرائيلية!»

علق ضيف آخر بالقول بأن مصر تعرف أكثر من غيرها أن مواقف حماس من التسوية لم تعد تختلف جذريا عن مواقف فتح. صارت حماس قريبة مما تعرضه فتح على إسرائيل. ثم إن مصر عندما تفاضل بين حماس وفتح إنما فى الحقيقة تفاضل بين حكم مستبد وحكم فاسد، هل يضيرها بشدة وجود نظام استبدادى فى غزة ولا يضيرها أن تقوم حكومة فلسطينية موحدة ولكن فاسدة تحكم الضفة القطاع معا؟ المطلوب من مصر، حسب رأى هذا المتحدث، أن تتداخل اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا مع غزة وغيرها، ولكن لا تتدخل.. وهو تماما المطلوب من سوريا فى لبنان.. أن تتداخل ولا تتدخل.
من جهة أخرى، كان هناك ما يقترب من الإجماع بين الحاضرين على أنه قد يكون من مصلحة النظام فى مصر والأمن المصرى بشكل عام تشكيل جماعة أو مؤسسة أو منظومة فكرية عربية تملأ الفراغ الذى خلفته مصر حين أهملت نفسها وتخلت عن مسئولية المحافظة على الاستقرار الإقليمى باعتباره حصن الأمان لحدودها الشرقية عبر القرون. لقد سمح هذا الفراغ لإسرائيل بأن تعتدى ثم تهيمن وتؤثر سلبيا على مكانة مصر الدولية، رغم اقتناع بعض المسئولين المصريين بأن إسرائيل تقدم خدمات للسياسة الخارجية المصرية فى بعض دول الاتحاد الأوروبى وفى الكونجرس الأمريكى. وسمح الفراغ لإيران بأن تتدخل وتتداخل فى شئون المشرق والخليج منتهزة حالة الغضب السائدة فى المنطقة ضد السياسات الأمريكية والغربية عموما، وسمح الفراغ لتركيا بأن تنزل إلى الساحة العربية لتحافظ على مصالحها القومية من توحش الهيمنة الإسرائيلية وانعزال مصر بإرادتها المطلقة والاختراق الإيرانى واحتمالات وقوع صدامات نووية على حدودها الجنوبية.

****

الأمل ضعيف فى أن ينهض الإقليم إلا إذا تخلت مصر عن ممارسة السياسة بنظام»القطاعى»، كل قطعة منفصلة عن القطع الأخرى،وبالساعة، كل ساعة حسب المزاج عندها وظروف صانع السياسة وانشغالاته. لن ينهض ويتحقق الاستقرار فيه إلا إذا تخلت مصر عن سياسة تعتمد على «تكتيكات» غير منتظمة أو مدروسة وتبنت كبديل لها سياسة تقوم على قواعد وأصول استراتيجية تحظى برضاء وثقة قياداتها الثقافية والسياسية وتتوافر لها خبرات متميزة.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي