هل يتناقض المبدأ «الشعار» الذى قامت عليه منظمة التحرير الفلسطينية بأنها الممثل الشرعى الوحيد للشعب الفلسطينى ولقضيته، مع الالتزام بالتوصية، التى اتخذها مجلس جامعة الدول العربية أخيرا بالموافقة على إجراء مباحثات غير مباشرة مع إسرائيل؟
فى الأساس ما كان لمجلس وزراء خارجية الدول العربية أن يبحث هذا الموضوع لو لم تطلب السلطة الفلسطينية منه ذلك. وما كان للسلطة أن تطلب ذلك لو أنها كانت قادرة على اتخاذ القرار منفردة وبمعزل عن الموقف العربى.
ثم لو أن مجلس الجامعة رفض إعطاء الموافقة، هل كانت السلطة الفلسطينية قادرة على المضى قدما فى هذه المفاوضات؟ ومن يتحمّل نتيجة المفاوضات، جامعة الدول العربية أو السلطة الفلسطينية؟
عندما أجرت مصر ــ الرئيس السابق أنور السادات ــ مباحثاتها مع إسرائيل، والتى انتهت إلى اتفاق كامب ديفيد فى عام 1979 لم تطلب موافقة مسبقة من جامعة الدول العربية .
ولم يطلب الأردن أيضا مثل هذه الموافقة عندما أجرى مباحثات مع إسرائيل انتهت إلى عقد معاهدة السلام فى وادى عربة.
كذلك فإن السلطة الفلسطينية السابقة برئاسة الرئيس الراحل ياسر عرفات أجرت مفاوضات فى أوسلو مع إسرائيل بصورة سرية فاجأت بها جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامى معا.
من هنا السؤال، لماذا لم يقتدِ الرئيس الفلسطينى الحالى بسابقة الرئيس الراحل؟.. هل أن ذلك يعنى بالضرورة التراجع عن الشعار بأن السلطة هى الممثل الشرعى الوحيد للشعب الفلسطينى؟
يشكل هذا السؤال مدخلا إلى قضية الانقسام العمودى الذى يعصف بالسلطة الفلسطينية بين فتح وحماس، الأمر الذى أوجد مشروع كيانين فلسطينيين فى قطاع غزة وفى الضفة الغربية. ولعل مما زاد الطين بله الانقسام الأفقى بين فتح وفتح الأمر الذى أدى إلى استضعاف الرئيس الفلسطينى محمود عباس (أبومازن)، والانقسام بين حماس وحماس، الأمر الذى وفّر ورقة جديدة للمراهنة على الاجتهادات المتباينة بين حماس دمشق وحماس غزة. وقد انعكس ذلك كله على الواقع الفلسطينى فى لبنان التى تشهد مخيماته الفلسطينية صراعات داخلية بين كل هؤلاء الفرقاء.
من الواضح أن الخلافات الفلسطينية ــ الفلسطينية لم تضعف القرار الفلسطينى فقط، ولكنها أضعفت أيضا صدقية الشعار بأن السلطة هى الممثل الشرعى الوحيد. فالشرعية مطعون بها. فهى حتى إشعار آخر شرعيتان.. شرعية المفاوضات السياسية ممثَلة بالرئيس عباس، وشرعية المقاومة المسلحة ممثلة بحكومة إسماعيل هنية. وكل من الشرعيتين تطعن بالأخرى وتصفها باللا شرعية.
تؤيد الأولى دول عربية، أبرزها مصر والسعودية، وتؤيد الثانية دول عربية أخرى، أبرزها سوريا وليبيا التى رفض زعيمها معمر القذافى استقبال الرئيس عباس حتى بعد وصوله إلى طرابلس الغرب.
والوحدانية مطعون بها أيضا. فلا «غزة» تستطيع أن تقول إنها الممثل الوحيد لكل الشعب الفلسطينى، ولا «رام الله» قادرة الآن على أن تقول بأنها السلطة الوحيدة التى تحتكر التمثيل.
يعكس هذا الواقع الفلسطينى مدى الضعف الذى يعانى منه المفاوض الفلسطينى فى المرحلة الحالية من المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل. ذلك أنه فى المقابل تتولى السلطة فى إسرائيل حكومة يمينية متطرفة ومتماسكة تعتبر بناء المزيد من المستوطنات اليهودية وانتهاك المقدسات الدينية الإسلامية ومصادرتها، وطرد الفلسطينيين من القدس وتهديم بيوتهم، من الثوابت التى لا تتفاوض عليها. وهى حكومة كما قال وزير خارجيتها ليبرمان لا تؤمن بالسلام ولا تعمل له بحجة أن ظروفه غير متوافرة فى الوقت الحاضر.
إنما تعمل على فرض أمر واقع على الأرض بقوة السلاح، وبالقدرة على تعطيل أى تدخل سياسى دولى، خاصة من الولايات المتحدة. فالمسافة واسعة جدا بين ما أعلنه الرئيس باراك أوباما فى خطابه الشهير فى جامعة القاهرة، والاقتراحات، التى يسوقها مبعوثه الخاص إلى الشرق الأوسط جورج ميتشل. كذلك فان المسافة واسعة جدا أيضا بين ما نصّت عليه المبادرة العربية للتسوية السياسية، التى اتخذتها قمة بيروت فى عام 2000، والتى أكدت عليها القمم العربية التالية فى الرياض ودمشق، وبين مجرد القبول بمفاوضات فلسطينية غير مباشرة مع إسرائيل على قاعدة اقتراحات ميتشل!!.
فعلى أساس هذا القبول صدر الضوء الأخضر عن مجلس وزراء خارجية الدول العربية للسلطة الفلسطينية للمضى قدما فى المفاوضات مع إسرائيل بالتزامن مع قرارها بناء 112 وحدة استيطانية يهودية جديدة.
لقد جرت مياه غزيرة تحت الجسر بين قمة الخرطوم الشهيرة (فى عام 1967) ولاءاتها الثلاثة الأشهر (لا اعتراف، ولا تفاوض، ولا صلح مع إسرائيل) والضوء الأخضر العربى للسلطة الفلسطينية.
وجرت مياه غزيرة أيضا تحت الجسر بين قمة الرباط «فى عام 1974»، التى أقرت مبدأ اعتبار منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعى الوحيد للشعب الفلسطينى ولقضيته، وبين الواقع الفلسطينى الانقسامى الحالى.
لقد كانت إسرائيل تعتبر مجرد القبول العربى بالحديث إليها، بأى شكل وبأى صورة، نصرا سياسيا لها.. أما اليوم فإن قبول إسرائيل بالحديث إلى الجانب الفلسطينى يعتبره الفلسطينيون أو بعض الفلسطينيين إنجازا سياسيا.
كانت جامعة الدول العربية تطالب بإزالة المستوطنات اليهودية فى الأراضى الفلسطينية المحتلة.. أما الآن فإنها تطالب بوقف بناء المزيد من هذه المستوطنات.
وكانت منظمة المؤتمر الإسلامى تقول بوجوب وضع إستراتيجية إسلامية لتحرير القدس.. فأصبحت الآن تطالب بوقف تهويد المدينة.. ولكن لا إسرائيل أوقفت أو جمدّت بناء المستوطنات، ولا هى أوقفت أو تراجعت عن تهويد القدس.
من هنا يبدو واضحا أن الوقت يعمل لمصلحة العدو الإسرائيلى المحتل.. الأمر الذى يرسم علامات استفهام كبيرة حول ما إذا كانت المفاوضات غير المباشرة سوف تسفر عن أى أمر سوى توفير المزيد من الوقت أمام إسرائيل للمضى قدما فى قضم وهضم المزيد من الأراضى الفلسطينية المحتلة، وبالتالى فرض المزيد من الوقائع التى يجرى التفاوض حولها فى مراحل مقبلة، وهكذا.
ومع حكومة نتنياهو ــ ليبرمان فإن من السذاجة الاعتقاد بأن الهدف من المفاوضات هو غير المفاوضات!