مواد قابلة للاشتعال - فوّاز طرابلسى - بوابة الشروق
الأحد 22 ديسمبر 2024 11:06 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مواد قابلة للاشتعال

نشر فى : الخميس 14 مارس 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 14 مارس 2013 - 8:00 ص

على امتداد الأسابيع الأخيرة، حضرت الهيئات الاقتصادية بقوة غير معتادة فى الحياة اللبنانية، إذ دخلت فى مواجهة مباشرة مع «هيئة التنسيق النقابية»، الممثلة لـ250 ألفا من معلمى التعليم الرسمى وموظفى القطاع العام.. (ويصدف أنها تتواجه أيضا مع موظفى المصارف أنفسهم حول تجديد عقد العمل الجماعى). فى الحالتين تطل معادلة غلاء المعيشة والأجور. لم تكتف الهيئات الاقتصادية بالتهديد بالإضراب، إن أقرت «سلسلة الرتب والرواتب» التى أقرتها الحكومة، بحجة أن ذلك يزيد من عجز الموازنة. تسلمت قيادة المعركة بنفسها من السياسيين وأخذت تديرها بزخم ملحوظ.

 

فجأة توارت طبقة سياسية بأكملها وأسلست القيادة للسلطة الخفية: المجتمع المالى التجارى العقارى. تولى هذا تحييد كل ما يمس مصالح رأس المال وما من شأنه أن يعيد للخزينة ما يفوق حاجتها لتمويل «السلسلة» العتيدة بأضعاف. رفضوا فرض ضرائب جديدة على الدخل مثلما رفضوا سابقا الضرائب على فوائد سندات الخزينة. وحجزوا أية إمكانية لتحصيل الضرائب بمعدلاتها الحالية من المتهربين من الدفع. فلا مكافحة للهدر والفساد. ولا مجال للموافقة على دفع المؤسسات السياحية والتجارية والصناعية لمتأخراتها إلى صندوق الضمان. ولا معالجة لمنهبة الأملاك البحرية المزمنة.

 

لقطع الطريق على أى من هذه المعالجات، شن ممثلو رأس المال الهجوم على أنظمة التقاعد ودعوا إلى اعتماد التعاقد للتوظيف فى الدولة والقطاع العام، وجددوا المطالبة بتعميم الخصخصة تحت عنوان التعاون بين القطاعين العام والخاص. أما الطبقة السياسية وفيها الآن أعلى نسبة من رجال الأعمال وأصحاب رأس المال فى المجلس النيابى والوزارة حتى لا نتحدث عن رئيسها فجل ما تفتقت عنه لتمويل السلسلة هو خلق مساحة وهمية فى البناء، سُميت على اسم رئيس الوزراء «طابق الميقاتى» تجبى من المضاربين العقاريين بما يعود إلى الخزينة بين 250 و500 مليون دولار. على أن صاحب «الطابق» يتمنع فى اعتماد المشروع مثلما يتمنع فى إحالة «السلسلة» العتيدة إلى المجلس النيابى، وهو المطلب الرئيس للحراك المطلبى والاجتماعى.

 

•••

 

المشهد يستحق التأمل لبرهة: ممثلون عن الفئات الأكثر هشاشة من الطبقات الوسطى والدنيا من كافة الأعمار والانتماءات المذهبية فى المدينة والريف، بمن فيهم الموكلون بتربية جيل جديد من اللبنانيين، أى ظاهرة مميزة من وحدة البلد وتطلعه إلى المستقبل والمسؤولية عن جيله الجديد، فى مواجهة كبار أصحاب المصارف والمستوردين والمضاربين العقاريين، بإدارة قطاع مصرفى متخم بالودائع التى دفعته إلى التسليف الشخصى واسع النطاق، تحقق مصارفه الخمسة الأولى للعائلات المسيطرة عليها ما لا يقل عن مليار دولار من الأرباح سنويا.

 

ومع ذلك، لا يزال العالم الإعلامى، بما فيه بعض عوالم اليسار، تتلعثم فى تسمية هذا الكائن غير المألوف فى الحياة العامة. فالناس معتادة على «الطبقة السياسية» و«الزعماء» فها أن سلطة فعلية تتوارى فى الأوقات العادية ولا تخرج إلى العلن فى الأزمات إلا لأغراض المنع والحجز والرفض لا لأغراض الإصلاح والتغيير. سمى هؤلاء «قناصى الريوع» فى وثيقة «جبهة للإنقاذ» التى ما إن عقدت مؤتمرها حتى غابت عن النظر والسمع. واكتشف البعض، فى هذه الحشرة، أن البلد تحكمه السفارات الأجنبية والذين جمعوا المليارات بطريقة لا يعرفها إلا الله. مع أن بنى آدم فى بلاد الأرز يشاركونه تعالى معرفة بكيفية جمع تلك المليارات وقسط وفير منها ناجم عن الرسملة الفاحشة للقطاع المصرفى بما هو المرابى لدولة هادرة وفاسدة ومفلسة.

 

مهما يكن، لم يترك المعلمون والموظفون وسيلة سلمية إلا استخدموها من إضرابات واعتصامات وتظاهرات ومهرجانات حاشدة فى بيروت والمناطق. تظاهروا أمام الوزارات وشلوا العمل فيها مؤقتا. ساروا نحو القصر الجمهورى الذى رعى وساطة فاشلة بينهم وبين الهيئات الاقتصادية. رفضت الحكومة إحالة مشروع «سلسلة الرتب والرواتب» إلى المجلس النيابى وأصدرت مشروع الموازنة لا يتضمن التعديلات المطلوبة على «السلسلة».

 

•••

 

آخر مرة ظهر فيها المجمع المالى التجارى العقارى بهذا الزخم فى الحياة العامة كان منذ نيف وأربعين عاما. العام 1972 كلف الرئيس سليمان فرنجية الرئيس صائب سلام تشكيل حكومة سُميت «حكومة الشباب». ضمت الحكومة عددا من الإصلاحيين من خارج الطبقة الحاكمة التقليدية عين لهم رئيسها، فى بيانه الوزارى مهمة القيام بالثورة من فوق بديلا عن أن تقوم من تحت. تقدم وزير الصحة إميل بيطار بمشروع لشراء الدولة أدوية الضمان الصحى مباشرة من المصدر تخفيضا لكلفتها. عارضه وكلاء شركات الأدوية ومستوردو الأدوية، لأنه سوف يكشف أرباحهم، وهددوا بالإضراب وتضامنت معهم «الهيئات الاقتصادية». ثم عارض أرباب العمل ثلاثة مشاريع أخرى: المرسوم 1943 لحماية الصناعة الوطنية الذى تقدم به وزير الاقتصاد الياس سابا؛ محاولة الوزير بيار حلو إنشاء وزارة صناعة جدية وقد استحدثت لأول مرة منذ الاستقلال؛ مشروع غسان توينى للإصلاح التربوى الذى عارضته المدارس الكاثوليكية ودعاة التعليم الدينى الخاص. انتهى الأمر بأن أقيل الوزير بيطار، كرمى لعيون مستوردى الأدوية، واستقال الوزير توينى وتضامن معه الوزير هنرى إده وبقى الوزير الياس سابا فى منصبه، بعد أن تراجع عن مرسومه رقم 1943. ولم يمض وقت إلا وحلت الوزارة برمتها. وجاءت محلها وزارة «قوية» برئاسة الرئيس سلام ذاته تم فى ظلها إطلاق النار على عمال غندور فى الشياح ومزارعى التبغ فى النبطية وصرف لا أقل من 600 من المعلمين والأساتذة الرسميين المضربين بما يشبه الإضراب الحالى، وقمع التحركات الطلابية.

 

كانت مشاريع «حكومة الشباب» الموءودة العام 1972 آخر محاولة للبحث فى الإصلاح. انتقل النظام بعدها إلى القمع، وبلا طول سيرة، اندغم الاحتقان الاجتماعى، مع الانغلاق الكامل للنظام السياسى الذى عبرت عنه انتخابات العام 1972 النيابية، مع الاحتقان الطوائفى ومع تأزم مسألة الوجود الفلسطينى فى لبنان. فكان الانفجار.

 

وها أن السلطة الفعلية فى البلد تطل علينا بعد أربعين عاما للغرض ذاته: منع أية بادرة لتصحيح الأجور أكثر منه لزيادتها. فى المرة الماضية، وأدتْ مشروع إصلاح متواضع لكنه على شىء من الطموح يشمل دعم القطاعات الإنتاجية وتوفير دواء رخيص وتحقيق إصلاح تربوى جاد. فى هذه المرة، لاحت محاولة إصلاحية فردية اقتصر الأمر فيها على طرد وزير من حكومة ترفع رايات «الإصلاح والتغيير» وقد تجرأ على طرح مشروع إصلاحى متواضع يدعو إلى دمج النقل والتعليم مع الأجر، أى اعتماد «الأجر الاجتماعي». على أن الإجراء لم يمنع انطلاقة حركات اجتماعية حول الموضوع إياه. وهو ما استدعى الهجوم الشامل.

 

•••

 

الاحتقان الاجتماعى والاحتقان الطائفى مادتان قابلتان للاشتعال. من أبسط شروط السلامة ألا يجتمعا. من قبيل الابتكار والحيطة يمكن أن يقال إن التخفيف من الثانى يمكن أن يتحقق بتوفير مقادير كبيرة من العدالة فى المجال الاجتماعى. لم تدرج العادة على اعتماد هذه المعالجة غير المباشرة. ولا اعتمدت طبعا معالجات من شأنها التجاوز التدريجى والتراكمى للنظام الطوائفى المذهبى.

 

لا يبقى لنا إلا التأمل فى واحد من خيارين، ليس بينهما من خيار ثالث، اللهم إلا الاحتراق البطىء لفتائل الانفجار.

فوّاز طرابلسى سياسى وكاتب وأستاذ جامعى لبنانى
التعليقات