(الإمبراطورية) الأمريكية.. من الفلبين إلى العراق - محمد السماك - بوابة الشروق
الإثنين 23 ديسمبر 2024 6:19 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

(الإمبراطورية) الأمريكية.. من الفلبين إلى العراق

نشر فى : الأحد 15 أبريل 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الأحد 15 أبريل 2012 - 8:00 ص

«لقد بددت 600 مليون دولار من خزينة الدولة، وضحيت بنحو عشرة آلاف من أرواح الأمريكيين زهرة شبابنا؛ ولقد دمرت مناطق معمورة وذبحت ما لا يحصى عدده من آلاف الأشخاص الذين ادّعيت أنك تريد مساعدتهم. لقد نجحت سياستك العملية فى تحويل الشعب الذى كان حتى ثلاثة أعوام خلت مستعدا لتقبيل أطراف ملابس الجنود الأمريكيين للترحيب بهم كمحررين.. إلى أعداء أشداء تتملكهم مشاعر الكراهية التى لا يمكن إزالتها لقرون عديدة».

 

لم يوجَه هذا الكلام القاسى إلى الرئيس الأمريكى جورج بوش. ولم يصدر عن مسئول أمريكى بعد غزو العراق. هذا الكلام صدر فى عام 1902 عن عضو فى الكونجرس الأمريكى يدعى جورج فيسبى هور. وكان موجها إلى الرئيس الأمريكى فى ذلك الوقت ثيودور روزفلت بعد اجتياح الفلبين.

 

وكان روزفلت قد وصل إلى الرئاسة الأولى فى واشنطن فى عام 1900 بعد اغتيال الرئيس ماكينلى الذى ما كان متحمسا لشنّ الحرب على الفلبين فى إطار الحرب الأمريكية ــ الإسبانية فى ذلك الوقت.

 

كان روزفلت مديرا للشرطة فى مدينة نيويورك ومن هناك وصل إلى البيت الأبيض. وكان روزفلت يصف أولئك الذين يتحدثون عن السلام بأنهم جبناء. وكان يردد دائما «أن هذه البلاد (أى الولايات المتحدة) تحتاج إلى حرب».

 

وهو ما كان يردده الرئيس جورج بوش أيضا حتى قبل أن تقع جريمة 11 سبتمبر 2001، ولذلك تعاون مع اثنين من أكثر المسئولين الأمريكيين إيمانا بالحرب وهما دونالد رامسفيلد وديك تشينى.

 

●●●

 

فى كتابه : «شرف فى الغبار» «Honor in the Dust» يروى المؤرخ الأمريكى جيرج جونز سيناريو الحرب الأمريكية على الفلبين منذ عام 1898، بصورة تبدو متطابقة إلى حد بعيد مع سيناريو الحرب الأمريكية على العراق فى عام 2003.

 

يقول جونز : «لقد جرى الترحيب بالجنود الأمريكيين كقوات تحرير للفلبين (من إسبانيا)، ولكن سرعان ما تحول هذا الحب إلى كراهية بعد أن تحوّلت القوات الأمريكية إلى قوات احتلال. وأعلنت الولايات المتحدة انتصارها فى الوقت الذى كانت الحرب مستمرة (فى الفلبين كما فى العراق). ثم إن قصص التعذيب التى مارستها هذه القوات (فى الفلبين وفى العراق أيضا) ملأت صفحات الصحف الأمريكية وأثارت الهلع والاشمئزاز فى نفوس الأمريكيين أنفسهم وفى نفوس الناس جميعا.

 

ومن خلال القصص التى ينقلها الكاتب المؤرخ عن تلك الحقبة الزمنية تبدو روايات سجن أبو غريب فى العراق، وروايات معتقل جوانتانامو فى القاعدة العسكرية الأمريكية فى كوبا، مجرد اجترار لما ارتكبته هذه القوات قبيل نحو مائة عام فى الفلبين: من تدمير عشوائى للأحياء السكنية فى المدن وإحراق القرى والمزارع، إلى انتهاك الأعراض وتدنيس المقدسات، وممارسة التعذيب. ويقدم المؤرخ مثلا على ذلك فى سرد رواية استجواب حاكم إحدى الولايات فى الفلبين بتهمة إخفاء معلومات عن تحركات الثوار المعارضين للاحتلال الأمريكى. وتقول الرواية إنه جرى تعذيبه لحمله على الاعتراف باستخدام ما يعرف باسم «العلاج المائى». وبموجب هذا العلاج كان يلقى به تحت خزان من الماء بعد أن توثق أطرافه بشدة ويحجب نظره. أما فمه فكان يفتح على آخره عن طريق خشبة قاسية كانت تركز بين الفكين. وبعد ذلك كان الماء يتدفق من الخزان مباشرة إلى فمه حتى ينتفخ بطنه ويكاد ينفجر.

 

هنا يسحب من تحت الخزان لينهال عليه معذبوه ضربا على بطنه حتى يلفظ كل ما فيه. ثم يعاد إلى تحت الخزان من جديد، إلى أن يعترف.

 

ولقد اعتمد العسكريون الأمريكيون هذا «العلاج المائى» فى «أبو غريب»، كما مارسوه بتطوير أكثر فى جوانتانامو. وتحت هذا التعذيب حصلوا على الاعترافات التى يريدون، ولكن تبين فيما بعد أنها كانت مجرد استجابات لمطالب المستجوبين وليست اعترافات حقيقية. ولذلك اضطرت الإدارة الأمريكية إلى إطلاق سراح معظم المعتقلين بعد أن تبين لها أنهم أبرياء. ولكن هؤلاء الأبرياء حولهم التعذيب إلى أعداء. حدث ذلك فى الفلبين، وحدث فى العراق، وهو يحدث الآن فى أفغانستان.

 

●●●

 

وكما كانت القوات الأمريكية تنظر إلى العراقيين نظرة دونية، حضاريا وعنصريا، كذلك كانت هذه القوات تنظر إلى الفلبينيين على أنهم قوم برابرة غير متحضرين. وكما أن بعثات التبشير الإنجيلية رافقت القوات الأمريكية فى غزو العراق لمقايضة المساعدات الإنسانية بالارتداد عن الإسلام إلى الإنجيلية، كذلك فعلت هذه البعثات فى الفلبين. ولكن هذه البعثات لم تنجح فى عام 1902 ولم تنجح فى عام 2003.

 

لم تكن الفلبين دولة إسلامية تحتلها إسبانيا. كانت ولم تزل دولة مسيحية كاثوليكية. مع ذلك فقد انتهكت القوات الأمريكية مقدساتها وفتكت بشعبها من أجل إخضاعه وتحويل بلاده إلى قاعدة عسكرية من ثم إلى حاملة طائرات متقدمة فى شرق آسيا.

 

ولا يزال الفلبينيون الذين استقبلوا القوات الأمريكية كمحررين من الاستعمار الإسبانى، أسرى عقدة كراهية الأمريكيين على النحو التى تنبأ به السيناتور جورج هور فى خطابه أمام الكونجرس منددا بالغزو الأمريكى للفلبين فى ذلك الوقت.

 

ولقد ندد بالغزو الأمريكى للعراق عضو آخر فى الكونجرس الأمريكى هو باراك أوباما.. وأوصله هذا الموقف الأخلاقى الوطنى إلى البيت الأبيض.

 

يقول المؤرخ الأمريكى جريج جونز فى كتابه «شرف فى الغبار» إن نتائج الغزو الأمريكى للفلبين أقنعت الرئيس روزفلت «أن حلم أمريكا بالإمبراطورية قد تلاشى».

 

●●●

 

ومن الثابت الآن أن نتائج الحرب الأمريكية على العراق أقنعت الرئيس جورج بوش مرة جديدة أن حلم أمريكا بالإمبراطورية قد تلاشى للمرة الثانية. وقد لا ينتظر العالم طويلا، حتى يأتى رئيس أمريكى آخر يحلم بالإمبراطورية ليقوم بعمل تدميرى طائش يدرك بعده، كأسلافه أيضا، أن الحلم قد تلاشى.

 

من هنا القول إن الولايات المتحدة تتخذ دائما القرار الصائب ولكن بعد أن تجرب كل الوسائل الأخرى غير الصائبة.

 

حتى الرئيس «المسالم» ماكينلى الذى قتل اغتيالا ليخلفه روزفلت قال فى خطاب انتخابى عام: «عندما نخوض حروبا لأسباب مقدسة تأتى إلينا الأراضى..». ولقد خاطب جمهور الناخبين كما يخاطبهم فى الوقت الحاضر المرشحون للرئاسة عن الحزب الجمهورى: «هل يجوز أن نحرم أنفسنا مما يعتبره بقية العالم حقا لنا». وكان رد الناخبين مدويا: «طبعا لا».

 

كان هذا منطق المرشح المسالم. أما منطق المقاتل روزفلت فكان يعتبر مجرد الحديث عن السلام جبنا وهراء!! ولعل هذه المقارنة بين ماكينلى وروزفلت تصلح أساسا اليوم للمقارنة بين أوباما وبوش، خصوصا بعد الخطاب التوددى الذى وصل إلى حد الانبطاح والذى ألقاه أوباما أمام الإيباك الصهيونية الأمريكية، استجداء لدعمها فى معركته الرئاسية المقبلة.

 

فى عهد الرئيس السابق روزفلت كان هناك معارضون صادقون لسياسته الحربية أمثال الأديب الشهير مارك توين. وفى عهد الرئيس جورج بوش كان هناك معارضون صادقون لسياسته الحربية أيضا أمثال الكاتب الشهير نعوم تشومسكى.

 

●●●

 

ولكن الوقائع التاريخية أثبتت أن الكلمة الصادقة لا تمنع حربا ولا تضمد جرحا بل إنها لا تحرر معتقلا ولا ترفع عنه سوء العذاب. فلا روزفلت كان أول رئيس أمريكى يطمح بالإمبراطورية، ولا بوش هو آخر رئيس أمريكى يسعى اليها. وبالتالى لم تكن الفلبين التجربة الأولى ولن يكون العراق التجربة الأخيرة.

 

محمد السماك كاتب وصحفي لبناني
التعليقات