استطاعت تركيا خلال العقدين الماضيين أن تنجح فى جعل بلادها ممرا مهما للنفط الخام من الدول المنتجة فى الشرق الأوسط ومنطقة بحر قزوين إلى الدول الأوروبية والأسواق العالمية. فهناك، على سبيل المثال، خط انابيب النفط العراقى الذى يمتد إلى ميناء جيهان على البحر الأبيض المتوسط الذى تم تشييده فى عقد الثمانينيات، وهناك الصادرات النفطية من جمهورية أذربيجان إلى البحر الأبيض أيضا، هذا بالإضافة إلى المشاريع الغازية التصديرية المتعددة من مصر ومنطقة بحر قزوين. هذه المشاريع جعلت من تركيا دولة «ترانزيت» مهمة ومستقرة للنفط والغاز من الشرق إلى الغرب، مما أضاف بعدا مهما للنهضة الاقتصادية التى تشهدها البلاد حاليا.
●●●
إلا أنه بدأت السياسة التركية تفرض واقعا بتروليا جديدا مليئا بالخلافات والنزاعات مع بعض الدول المجاورة مما سيترك بصماته السلبية على العلاقات الجيدة التى اكتسبتها بجدارة فى الأعوام الماضية.
وهناك ثلاث أمثلة بارزة عن الصورة الجديدة المليئة بالخلافات:
أولا، الاتفاق الرسمى (الحكومى) التركى مع حكومة إقليم كردستان العراق لتصدير النفط الخام العراقى مباشرة من إقليم كردستان إلى تركيا دون موافقة الحكومة العراقية، ومن ثم إلى الأسواق الدولية. وهذا الاتفاق الذى تم التوقيع عليه بين وزير الطاقة التركى ووزير الموارد الطبيعية لإقليم كردستان، يناقض الدستور العراقى لعام 2005 الذى ينص بصراحة على أن تصدير النفط الخام العراقى يجب أن يتم عبر طريق مؤسسات الحكومة العراقية الفدرالية، بالذات مؤسسة تصدير النفط العراقى (سومو) ويمنع تصدير النفط العراقى عبر أى مؤسسة أخرى. وكما هو متوقع، فقد اعترضت حكومة نورى المالكى على هذا الاتفاق، وهذا الأمر متوقع ليس فقط لأن المشروع المزمع تنفيذه يخرق مبدأ أساسيا من المبادئ السيادية للعراق، لكن لأن الخلافات مستفحلة ما بين بغداد وأنقرة منذ فترة طويلة. ويتوقع أن تتخذ الحكومة العراقية خطوات اعتراضية قانونية، مثل محاولة وضع اليد على النفط المصدر عبر المحاكم الدولية فى حال بدء التصدير. ومن الجدير بالذكر، أنه قد تم البدء بتشييد خط الأنابيب ويزمع التصدير عبره خلال العام المقبل مما سيخلق عاملا جديدا فى توتر العلاقات ما بين العراق وتركيا بالإضافة إلى توترها إلى اكثر مما هى عليه الآن بين بغداد وإقليم كردستان.
●●●
ثانيا: العلاقة مع جمهورية قبرص. لقد اعترضت تركيا منذ سنوات، وبالذات منذ بدء السلطات فى نيقوسيا الاستكشاف عن البترول فى المناطق الاقتصادية الخالصة المحيطة بالجزيرة، اعترضت أنقرة على العمليات البترولية التركية. وبالفعل، وبعد حادث باخرة «مرمرة» التركية حيث هاجمت القوات الاسرائيلية هذه الباخرة والركاب التى عليها
وتهدف تركيا من حملتها هذه إلى تحقيق الاهداف التالية: فتح المجال أمام الشركات النفطية التركية للاستكشاف والتنقيب فى هذه المياه، الحصول على نسبة معينة من الغاز المكتشف للسوق التركية وبأسعار مخفضة، المحافظة على حصة من الاكتشافات للجالية التركية فى الجزء الشمالى من الجزيرة الذى تحتله القوات التركية، وأخيرا، الضغط على نيقوسيا للجلوس على طاولة المفاوضات والوصول إلى اتفاق لتوحيد الجزيرة بعد نحو 40 سنة من احتلال جزء منها من قبل الجيش التركى والمفاوضات العقيمة خلال تلك الفترة. فى نفس الوقت تؤكد السلطات القبرصية أنها تقوم بعمليات الاستكشاف والتنقيب حسب القوانين الدولية، بالذات قانون البحار، وأنها تحرص على تنفيذ السياسات والقوانين الأوروبية، هذا مع العلم أن قبرص هى عضوا فى الاتحاد الأوروبى.
لكن تستمر تركيا بضغوطها فقد اعلنت مؤخرا أنها ستضع على اللائحة السوداء أى شركة نفطية تتعاقد مع السلطات القبرصية وتمنع هذه الشركة من العمل التجارى أو الاستثمار فى السوق التركية الواسعة والنامية، والتى هى طبعا أكبر بكثير من السوق القبرصية الصغيرة الحجم. وقد بادرت انقرة مؤخرا بمقاطعة شركة «إينى» الإيطالية. وتترقب الأوساط النفطية فيما إذا ستقاطع تركيا شركة «توتال» الفرنسية التى وقعدت مؤخرا عقد للاستكشاف والتنقيب فى المياه القبرصية.
●●●
ثالثا: القرار الأوروبى فى رفع الحصار عن تصدير جزئى للنفط السورى، وبالذات من الحقول التى يسيطر عليها الثوار. قرر وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبى مؤخرا رفع الحصار عن الصادرات النفطية السورية والسماح بالاستثمار فى الحقول واستيراد المعدات والآلات اللازمة لهذه الحقول.
إن المعنى الفعلى لرفع الحصار هذا، هو السماح بتصدير النفط الخام من الحقول النفطية فى شرق سورية ومن ثم تحميلها على الشاحنات إلى المصافى التركية. والسبب فى ذلك، أنه بينما تقع الحقول فى شرق البلاد، بالقرب من دير الزور والحسكة والقامشلى، إلا أن التصدير يتم من غرب البلاد عبر الساحل الذى لا تزال تسيطر عليه القوات الحكومية. من ثم، فإن طريقة التصدير الوحيدة هى عبر تعبئة النفط الخام على الشاحنات إلى أقرب المصافى التركية. إذ من الصعب جدا نقل النفط بهذه الوسائل البدائية إلى الاسواق الأوروبية. من ثم، فإن معظم هذا النفط الذى تم فك الحصار عنه سيغذى السوق التركية.
لكن، تعترض هذه العملية بعض الصعوبات، اهمها: أن الكميات الممكن تصديرها قليلة نسبيا، إذ لا تتعدى عشرات الآلاف من البراميل يوميا، والأهم من ذلك أنه من غير الممكن إيصال النفط بطريقة منظمة وفى مواعيد منتظمة، وهذا أمر لا يناسب المصافى طبعا، ناهيك عن مشكلة نوعية النفط الذى ستستلمه المصافى، فهل سيكون من النوع الثقيل أو الخفيف. فكل مصفاة مهيئة لاستقبال انواع محددة من النفوط لكى تصنع المنتجات البترولية فى منطقتها. إلا أن القرار الأوروبى، الذى ستستفيد منه تركيا اساسا، سيواجه مصاعب اخرى: كيف ستتم الدفعات المالية لقاء شراء النفط، وما هى الجهات التى ستستلم الملايين من الدولارات يوميا. فمن المعروف أنه قد تمت السيطرة على الحقول من قبل ميليشيات عديدة، منها كردية ومنها الجيش السورى الحر ومنها جبهة النصرة المرتبطة بمنظمة القاعدة، هذا بالإضافة إلى العشائر والمهربين. فلمن ستدفع هذه المبالغ الطائلة من الأموال، وبالذات هل سيوافق الاتحاد الأوروبى أن يتم الدفع إلى منظمة إسلامية تابعة لحركة القاعدة والى مهربين؟ وأخيرا، ماذا عن رد فعل الحكومة السورية التى أدانت هذا القرار فى رسالة لها إلى مجلس الأمن؟ من الطبيعى أنها ستشتكى أمام المحاكم الدولية، طالبة وضع اليد على شحنات النفوط هذه والتى تباع إلى تركيا بدون موافقتها وبأسعار مخفضة.
●●●
لقد فتحت تركيا ثلاث جبهات ستؤثر سلبا على سياسة «الترانزيت» البترولية التى تدر عليها الملايين من الدولارات سنويا. والأهم من ذلك، إن هذه النزاعات فى حال استمرارها وتصاعدها قد تؤثر على استقرارية سياسة «الترانزيت» التى عرفت بها تركيا.
مستشار فى نشرة ميس «MEES» النفطية