مقياس الدول الديمقراطية ليس فقط وجود أحزاب أغلبية وأحزاب معارضة فى البرلمان أو درجة حرية القول أو الفعل أو درجة اتساع الحقوق، ولكن يكون مقياس ديمقراطية دولة هى مدى استيعاب شعبها للتنوع والاختلاف وهذا ما اختبرته الدول التى فتحت ذراعيها للهجرة مثل أوروبا الغربية وكندا ودول أمريكا الجنوبية وأمريكا الشمالية وقديما مصر حيث تأتى جماعات من أركان العالم لتستوطن وتندمج فى المجتمع الجديد وتساهم على بنائه وارتقائه مهما كان دينها أو عرقها أو جنسها وأقول هذا بمناسبة الفرحة الكبيرة التى أظهرتها الدول الإسلامية والعربية لنجاح الإنجليزى بالتجنس والباكستانى الأصل ومسلم الديانة صديق خان مع التشديد عليها فى اعتلاء عمادة مدينة لندن، فقط فى دولنا نضع الدين مقياسا للأشخاص وربما نحكم عليهم من خلال منظور الدين دون الالتفات إلى درجة اندماجهم فى المجتمع أو علمهم أو كفاحهم الشخصى الذى أهلهم للوصول إلى المناصب المختلفة.
إن شئنا أو أبينا تتمتع الشعوب الغربية الممارسة للديمقراطية والتى يعتبرها المتعصبون والمتشددون والإرهابيون دول «كفار» بدرجة من الانفتاح والتسامح فيها هى بريطانيا قد نجحت أكثر من غيرها من الدول الأوربية (رغم أن فرنسا على سبيل المثال وليس للحصر فيها أكثر من وزيرة من أصول عربية ومسلمة الديانة) وبنسب متفاوتة فى دمج المهاجرين إليها وانثقافهم فى بيئتهم الجديدة، ومنذ زمن طويل كنا نجد مسئولين إنجليز من أصول غير انجلو ــ ساكسونية، فكنا نجد باكستانيين وهندوسا وسيخا ومصريين وعراقيين ومن كل صوب، ولكن المعيار لوصول هؤلاء إلى تلك المناصب لم يكن الدين أو العرق أو الجنس ولكن «التعليم والتكوين الإنسانى» بجانب درجة الاندماج وانتمائهم والتزامهم فى العمل. وصِديق خان هو خير دليل على ذلك فهو من أب عمل سائق حافلات ولكن صديق نفسه مكافح وسط ظروف صعبة عمل منذ شبابه إضافة لدراسته للقانون وتخرجه فى جامعة شمال لندن، وبعد ذلك انخرط فى الحياة السياسية من خلال حزب العمال البريطانى ونجح فى أن يكون عضوا بالبرلمان البريطانى عام 2005 عن حى توتينج ــ Tooting، كما عمل محاميا متخصصا فى حقوق الإنسان، وعين وزير دولة لشئون الجماعات عام 2008 ثم وزيرا للنقل فى الوزارة العمالية برئاسة جوردن براون ليكون أول وزير مسلم يحضر اجتماعات مجلس الوزراء كذلك عين وزيرا فى حكومة الظل العمالية وقد شارك فى كتابة رسالة مفتوحة لتونى بلير فى أغسطس 2006 لانتقاد سياسته الخارجية، وتنقل سواءً فى مهنته ودفاعه عن الحريات، أو فى العمل العام أو كمحاضر فى عدة جامعات بريطانية مما جعله يكتسب الخبرة الضرورية الواسعة لتؤهله ليكون عمدة لندن.
صديق خان متزوج منذ 1994 من زميلته المحامية السيدة سعدية أحمد وله منها ابنتان وبالمناسبة هى غير محجبة.
المحللون يضعون آراء صديق خان فى خانة الاشتراكى الديمقراطى والذى لا يضع الدين فيه نقطة ارتكاز. وقد صوت لصالح الزواج من نفس الجنس (أى زواج المثليين) وقد صدر ضده فتوى بأنه لم يعد مسلما ونصحته الشرطة بالحذر كما قدمت له الحماية إذ قد وصله تهديدات بالقتل، ورغم ذلك نال فى فبراير 2016 جائزة السنة ــ لسياسى السنة ــ من المجلس البريطانى ــ الإسلامى. وعدة جوائز أخرى، كما له عدة مقالات وكتب.
هذه الرحلة القصيرة فى حياة صديق خان هى لإثبات أن الدول التى لها ممارسة عريقة فى الديمقراطية تعطى «لكل مجتهد نصيب» ليس المجتهد فى درجة تدينه ولكن المجتهد فى درجة علمه وانتمائه وكفاحه وخدمته للمجتمع الذى هو فيه ولا تخشى من إعطاء ما نسميهم نحن الأقلية مراكز مهمة وحساسة فى الدولة.
هكذا تبنى الدول ديمقراطيتها وتستوعب كل تنوع واختلاف بل تجعله بقدر كبير انسجاما بين الجميع.