يكتب:سالت دماء المصريين أنهارا يوم الأحد الماضى عند ماسبيرو، فصارت إدانة الجانى والتضامن مع الضحية الواجب الأول، وهو موقف أخلاقى لابد أن يسبق أى مناقشة سياسية تتناول تفاصيل الواقعة.
الجناة المباشرون متعددون، أولهم المؤسسة العسكرية بتخليها عن وعود عدم إراقة دماء المصريين، وتلطخ عربات مدرعاتها بكل أسف بدمائهم، والتذرع باضطرار القوات اللجوء للعنف دفاعا عن النفس غير مقبول، فالخيارات المتاحة للتعامل مع مثل هذه المواقف لا تتضمن القتل، ولا يصح لمؤسسة تقوم على الانضباط والتأهيل العسكرى رفيع المستوى أن تعتذر بالارتباك، وكان الأولى أن تعتذر المؤسسة عن الدماء التى سالت لا أن تتنصل منها أو تسعى لتبريرها. ثانى الجناة الإعلام الرسمى، بانقلابه على مهنيته ومسئوليته الوطنية وتبنيه خطابا يكرس الطائفية ويحرض على الاقتتال، فمطالبة عموم المصريين بالنزول للشوارع دفاعا عن الجيش ضد الأقباط خطأ مهنى جسيم يصل لدرجة التواطؤ الناتج عن انعدام الاستقلالية، ويبدو لى أن التطابق بين الخطاب فى هذه الواقعة وفى الأيام الأولى للثورة قبل خلع مبارك هو دليل انعدام الإنجاز على صعيد التطهير الإعلامى، إذ كان الإعلام فى الحالتين مسيئا للمواطنين، منحازا للأجهزة التفيذية، محرضا.
الحكومة هى الأخرى تتحمل قسطا من المسئولية، أولا بتقصيرها فى علاج الموقف سياسيا قبل اندلاعه، وأمنيا قبيل الصدام، وصحيا وإعلاميا بعد ذلك، وثانيا بتنكرها لمسئوليتها السياسية والقانونية من خلال بيان رئيس الوزراء الهزيل الذى ألقى فيه بالمسئولية على الشعب والنخب، يستثنى من ذلك نائب رئيس الوزراء الذى اتخذ موقفا شريفا بالاستقالة اعتراضا على الأداء الحكومى، فى زمن عزت فيه الاستقالات.
وفى قوائم الجناة مجموعات مسلحة مجهولة الهوية قيل إنها خرجت من الشوارع الجانبية وأشعلت المعركة، وتلك تتحمل مسئوليتها وزارة الداخلية التى فشلت طوال الأشهر الماضية فى استعادة الأمن فى الشارع، وسمح تقاعسها بانتشار البلطجة المأجورة، وترك مساحات واسعة لتحرك عناصر الثورة المضادة.
بعد الإدانة تأتى تفاصيل مهمة، منها ما جاءت به معظم الروايات من خروج مجموعات منظمة من الشوارع الجانبية ومن أعلى الكوبرى لتثير الفوضى بين الجانبين (الأمن والمتظاهرين)، وأن تلك المجموعات هى التى بدأت بضرب النار عليهما، ومنها تقارير الطب الشرعى الدالة على أن الرصاصات القاتلة جاءت من أعلى، وما أكده البعض من أن الجيش لم تكن معه ذخيرة حية، وأكده غيرهم من أن ضباط أطلقوا الرصاص تجاه المتظاهرين، وما نقله صحفيون شهدوا الواقعة من أن العنف بين المتعاركين كان شديدا على نحو غير مألوف، وغيرها من التفاصيل التى تطرح أسئلة جادة عماهية الأطراف المجهولة المشتركة فى الجريمة، والتقصير الاستخباراتى والأمنى الشديد الناتج عن انشغال الأجهزة المختصة بمهام سياسية، وهى كلها أسئلة لابد من انتظار نتائج التحقيق للإجابة عنها، ولابد ــ فى كل الأحوال ــ من محاسبة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية على تقصيرها فى حق الوطن.
ومن المؤسف أن بعض القوى السياسية انشغلت ــ فى بياناتها وتصريحاتها ــ عن تلك القضايا الرئيسة بتفاصيل أخرى أقل أهمية، مثل تحليل أسباب المظاهرة، وشرعية بناء الكنيسة التى ثار حولها الخلاف فى أسوان، والانتماء الدينى للمتظاهرين، وكله كلام فى غير الموضوع، فحق التظاهر السلمى يكفله الدستور للمواطنين كافة بقطع النظر عن أسباب التظاهر، والخلاف حول شرعية بناء الكنيسة أو هدمها لا يبرر عنف الدولة ضد المواطنين خلال مباشرتهم هذا الحق، والإشارة للانتماء الدينى للمتظاهرين تكرس الطائفية، وتبرئ ساحة القتلة الذين يصيرون فى هذه الرواية مصلحين بين طائفتين مقتتلتين، فى حين الواقع يقول إن الصدامات وقعت لا بين فئتين من المواطنين وإنما بين مواطنين وسلطة.
والحقيقة أننى أرى موقف الساسة وقادة الرأى والزعماء الدينيين فى مصر أعمق دلالة وأشد خطورة من الموقف الرسمى، فتلك النخب التى ملأت الدنيا ضجيجا خلال الأشهر الماضية حول قضايا لا تهم المواطن (كأولوية الدستور أو الانتخابات، وإلزامية المبادئ الدستورية أو إرشاديتها، ومدنية الدولة أو إسلاميتها أو علمانيتها) غابت عن المشهد حين صار وجودها ضروريا، فلم يتواجد أى من أفرادها فى الشارع، ولم تتدخل عند الحاجة لاحتواء الموقف وحقن الدماء.
وسبب ذلك فى تقديرى هو أن تلك النخبة قد انقطعت صلتها بالشارع، فلم تعد مدركة لنبضه وآماله، وفقدت بالتالى شرعيتها عنده فلم يعد يثق بها أو ينتصح بنصائحها، وإذا كان الزعماء الدينيون استثناء فليس سبب ذلك اقترابهم من الشارع وإنما دورهم الرمزى الذى تصير له أهمية كبيرة فى المناخ المشحون طائفيا، وهم كغيرهم ــ فى تقديرى ــ لا تعنيهم حياة الناس وكرامتهم بقدر ما تعنيهم المصالح التنظيمية لمؤسساتهم، التى صارت فى التحليل الأخير أحزابا سياسية.
وأتصور أن قراءة التصريحات والبيانات الصادرة عن الجهات المختلفة من شأنه تصدير قدر من الإحباط لا يقل عن هذا الذى خلفته الأحداث، إذ يغلب عليها تقديم المصالح الضيقة على المواقف المبدئية والأخلاقية، فبعضها تخير العبارات المطاطة، وبعضها تجنب إدانة المتسببين فى إراقة الدماء حرصا على مصالح مستقبلية مع السلطة، وبعضها سارع بتحويل الدماء لأوراق سياسية يمكن استخدامها لتعظيم مكاسب تنظيمية، وسبب ذلك فى تقديرى أن ساسة مصر وقادة الرأى فيها غير معنيين فى الحقيقة بحال المواطن وسلامته إلا بقدر استفادتهم منه سياسيا، فمفهومهم للسياسة يقوم لا على خدمة المواطنين والتعبير عن مصالحهم السياسية، وإنما على الزبونية التى تجعلهم فوق الشعب.
أخشى أن المشهد المأساوى الذى شاهدناه فى ماسبيرو قبل أيام يتحول سريعا من مأساة وطنية ينبغى محاسبة المتسببين فيها إلى فرصة سياسية تحاول الأطراف المختلفة استغلالها، غير منشغلين ولا عابئين بمشاعر البسطاء الذين فقدوا ذويهم فى هذه الأحداث، أو من أصابتهم الأحداث بقلق على حياتهم وأشعرتهم بالقلق من العيش فى وطنهم، أو أولئك الذين أقلقتهم الأحداث على مصير وطنهم وثورتهم.
لا يمكن القبول بأن يدفع البسطاء دوما ثمن الحرية، فى حين يجلس الساسة وقادة الرأى بانتظار الحصاد على النحو الذى رأيناه فى كل مشاهد الثورة منذ يومها الأول، كما لا يمكن القبول بأن تتاجر النخب بدماء الشهداء وتسارع بتحويلها لرصاصات تطلقها على بعضها البعض لكسب أرض سياسية، ولا بأن تتحول الخلافات بين النخب إلى معارك فى الشارع يساق إليها البسطاء ويدفعون ثمنها من دماء أبنائهم، لكى تظل بعض الأطراف فى السلطة، ويتمدد نفوذ بعض الزعماء الدينيين، ويثبت البعض صحة رؤاه السياسية، فإن كان للحرية والكرامة ثمن، فلنتشارك فى دفعه جميعا.