فى كتاب جديد عن القرن العشرين للمؤرخ تيموثى سنيدر عنوانه: «أرض الدماء: أوروبا بين هتلر وستالين»، يلقى المؤلف الأضواء على التشابه بين الشخصيتين اللتين سقط على أيديهما 14 مليونا من المدنيين غير المقاتلين.
وتوحى الدراسة بالتشابه بين الشخصيتين اللتين افتتحا القرن الواحد والعشرين بأحداث مشابهة أدت إلى سقوط آلاف الضحايا من المدنيين غير المقاتلين أيضا، وهما الرئيس الأمريكى السابق جورج بوش وزعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن.
لقد حدد المؤرخ سنيدر أرض الدماء بالمنطقة الواقعة بين بحر البلطيق فى شمال أوروبا والبحر الأسود فى الجنوب، حيث وقعت أكثر الأحداث الدموية مأساوية. أما ارض الدماء التى بدأ بها القرن الواحد والعشرين فهى أوسع مدى، وتمتد من المحيط الأطلسى (نيويورك 1/9/2001) حتى المحيط الهادى (بالى ــ سويسرا) مرورا بالعراق وأفغانستان وباكستان حيث تساقط الآلاف من الضحايا المدنيين ولا يزالون يتساقطون حتى اليوم.
كان مشروع هتلر يقوم على قاعدتى التفوق العنصرى والتوسع. وكان مشروع ستالين يقوم على نظرية إعادة تكوين المجتمعات الإنسانية على قاعدة الشيوعية. كذلك فإن مشروع الرئيس جورج بوش كان يقوم على أساس محاولة الهيمنة الأمريكية على العالم بعد سقوط الاتحاد السوفييتى وتحويل العولمة إلى أمركة. والعامل الذى كان يملى على الرئيس بوش هذا الطموح لم يكن مجرد عامل سياسى ــ اقتصادى، ولكنه كان يتعدى ذلك إلى العامل الدينى. فالرئيس الأمريكى السابق كان يعتقد أنه مكلف من الله، وأنه يستوحى منه مباشرة قراراته السياسية بما فيها قرار الحرب على العراق، تمهيدا للعودة الثانية للمسيح كما تقول نظرية الكنيسة المسيحانية الصهيونية الأمريكية التى كان الرئيس بوش يؤمن بها.
وكان مشروع (؟) بن لادن هو استنفار المجتمعات الإسلامية على قاعدة استعدائها للآخر، كل آخر، ومن ثم إعادة تكوينها على أساس دار الحرب ودار السلام.
لقد اعتمد كل من بوش وبن لادن نظرية واحدة تقول إنه من ليس معنا فهو عدونا، وأننا على حق والآخر على باطل. وأننا نحن الجيدون وان الآخر هو السيئ، وهو الشيطان الرجيم (نظرية الفسطاطين).
تحولت المنطقة من بحر البلطيق إلى البحر الأسود إلى بحيرة من الدماء بسبب محاولات تصفية وإزالة كل من هم خارج مشروع هتلر أو مشروع ستالين. وتحولت المنطقة من نيويورك إلى بالى إلى بحر من الدماء على خلفية صراع بين رجلين يعتقد كل منهما انه يملك تفويضا من الله.. وأنه يحرك قواه التدميرية على أساس هذا التفويض.
أوحى هتلر بأنه يقود العالم إلى المثالية من خلال سيطرة الجنس الآرى. وأوحى ستالين ان النازية مارست جرائم القتل الجماعى، وانه جاء ليحرر العالم من سيئاتها ومن شرورها. وتذكر أرقام الحرب العالمية الثانية ان عدد ضحايا القصف الألمانى النازى الذى استهدف مدينة فرصوفيا ــ عاصمة بولندا ــ فى عام 1939 يوازى عدد ضحايا القصف الذى استهدف مدينة درليسدن الألمانية فى عام 1945.
وبالمقابل أوحى الرئيس جورج بوش أنه يقود العالم إلى المثالية من خلال القضاء على الديكتاتورية ونشر الديمقراطية واقتلاع الإرهاب من جذوره. فكانت الحرب على أفغانستان المستمرة حتى اليوم والتى لا يعرف أحد عدد ضحاياها من المدنيين. وكان اجتياح العراق الذى تؤكد الإحصاءات الدولية الموثوقة أن عدد ضحاياه من المدنيين تجاوز المليون إنسان.
وكما صور ستالين دوره بأنه دور تحريرى من النازية الفاشية، كذلك صور الرئيس بوش دوره بأنه دور تحريرى من الديكتاتورية الصدامية. وكما حاول ستالين بث الشيوعية لخلاص شعوب المنطقة الأوروبية من البلطيق إلى الأسود من الظلم والاستبداد، هكذا أيضا حاول بوش الإيحاء بأن بث الديمقراطية هو لإنقاذ شعوب الشرق الأوسط وامتداد شعوب جنوب شرق آسيا من الديكتاتورية المستبدة، ومن التخلف الاجتماعى والاقتصادى.
وفى الحالتين كان الاجتياح العسكرى يصور على انه عمل إنسانى شريف ونبيل.. وان الانتصار الذى يحققه هو انتصار للقيم الإنسانية وليس لمصالح ذاتية.. وبالتالى فإن أهميته لا تقاس بعدد الضحايا ــ ولو بالملايين ــ ولكن بالمتغيرات التى يفرضها.. ولو بقوة السلاح!
يقول المؤرخ سنيدر فى كتابه: إن هتلر تعلم كثيرا من ستالين وبالعكس. ومن الواضح أن بن لادن تعلم كثيرا أيضا من بوش وبالعكس.
والآن بعد أن أسفرت الانتخابات العامة فى الولايات المتحدة عن استعادة الحزب الجمهورى ــ الذى كان الرئيس بوش زعيما له ــ الأكثرية فى مجلس الشيوخ، وبعد أن تعثر الرئيس الأمريكى باراك أوباما فى تنفيذ التغييرات فى السياسة الأمريكية الخارجية ــ خاصة فى الشرق الأوسط وتحديدا فى فلسطين التى وعد بها ــ فإن السؤال المقلق الذى يفرض نفسه هو: هل عادت «البوشية» ولو من دون الرئيس بوش؟ وماذا يعنى ذلك؟ وكيف سيكون رد فعل «البنلادنية»، واين؟.
فى عام 1952 كان ستالين يقول «إن كل يهودى روسى هو مواطن ولكنه عميل للمخابرات الأمريكية». ولذلك كان يأمر بعد قتل اليهودى أن ترفع فوق نعشه النجمة السوفييتية الخماسية وليس نجمة داود السداسية.
ومنذ عام 2001 كان الرئيس بوش يعتبر كل مسلم عميلا محتملا لتنظيم القاعدة وإرهابيا مع وقف التنفيذ. وقد صدرت فى عهده عدة قوانين وأنظمة، واتخذت إجراءات بوليسية قمعية وضعت كل مسلم فى قفص الاتهام حتى يثبت العكس، وذلك خلافا للقاعدة التى تقول بها حقوق الإنسان، والتى كانت أكثر حضورا واحتراما فى المجتمع الأمريكى قبل جريمة نيويورك.
سقط المنطق الستالينى مع ستالين حتى قبل أن تسقط الشيوعية ومعها الاتحاد السوفييتى. غير أن «المنطق البوشى» يستقوى اليوم فى الولايات المتحدة بعد انحسار لم يستمر سوى لعامين فقط. ويردف هذا المنطق الخطير، منطقا (أو لا منطق) أشد خطورة يقول به بن لادن الذى يصوّر العالم الإسلامى وكأنه فى حالة حرب مع كل من هو خارجه!!.
لقد حولت معادلة بوش ــ بن لادن، كما حولت من قبل معادلة هتلر ــ ستالين، الضحايا البريئة إلى مجرد إحصاءات رقمية. وحاولت المعادلتان أن تصورا قتل الملايين من الناس الأبرياء على انه عمل نبيل من أجل خير الإنسانية وتقدمها وسعادتها. وليس فى ذلك ما يدعو إلى الاستغراب. فتلك ظاهرة ترافق الإنسانية منذ اليوم الأول.
ألم تتساءل الملائكة عندما خلق الله آدم «أتخلق فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبّح بحمدك؟».