استخدم «الغرب» الأوروبى، حتى قبل القرن السادس عشر، تعبير Levantins لتوصيف سكان شرق البحر المتوسط ودعا بلادهم Levant، إشارة إلى شروق الشمس. وبالطبع، لا تحمل ترجمة هذا التعبير بـ«المشرق» نفس الدلالات التى حملها هذا التعبير «غربيا»، وما زال. ليس فقط جغرافيا (شرق ماذا؟)، بل أيضا أنه عنى تباعا سكان ما هو شرق مدينة البندقية الإيطالية، أو تجار هذه البلدان المشهورين بـ«شطارتهم» وحنكتهم التجارية، كى يتحول بعدها للإشارة إلى السكان غير الأتراك فى الإمبراطورية العثمانية، بمن فيهم البيزنطيون والأرمن، أو السكان غير المسلمين الذين أُقحِموا فى سياسات «الحماية» الاستعمارية.
فى عام 2014، وفى خضم تطورات «الربيع العربى» وتفشى سيطرة «داعش» فى سوريا والعراق، اختار البنك الدولى هذا التعبير لتقريرٍ كبيرٍ أصدره تحت عنوان «فى الأفق: يلوح مشرقٌ /Levant جديد». ودعا فيه إلى خلق وحدة اقتصادية متكاملة بين مصر وتركيا والأردن والعراق ولبنان وسوريا والأراضى الفلسطينية. كان التقرير بطبيعته اقتصاديا، إلا أنه يشير إلى «الحاجة الماسة إلى الحد من عدم اليقين الإقليمى وإحياء الاستثمار والنشاط الاقتصادى داخل المنطقة بحيث يوفر هذا كله دافعا قويا»... لمثل ذلك المشروع. وبالطبع بنى هذا التقرير تحليله على تركيا ومصر كقطبين أساسيين للتطوير الاقتصادى الصناعى، أما إمكانيات التكامل الأكبر بين البلدان فوضعها فى مجال... تجارة الخدمات، من النقليات والسياحة إلى المصارف والتأمين عبورا بالاتصالات. هذا فى ظل نهوض جنوب شرق الأناضول فى تركيا لتوريد البضائع إلى إيران الخاضعة للعقوبات وإلى بلاد العراق التى فقدت قدراتها الإنتاجية منذ الغزو الأمريكى فى 2003 وأقل منها سوريا خلال الصراع. «البراءة» ملحوظة فى هذا الطرح.
•••
شكل هذا الطرح بكل الأحوال سابقة، خاصة بعد «انفصال» مجلس التعاون الخليجى فى تكاملٍ اقتصادى خاص به دون التكامل العربى، وتعثر مشروع المغرب العربى الكبير، وانفصال الشراكات الأوروبية بين شراكات مع الخليج وأخرى مختلفة سميت «أورو ــ متوسطية»، أى بين القارة العجوز والبحر (!)، كل بلدٍ متوسطى على حدة.
إلا أنه، وفى حين كان مشروع «صفقة العصر» يلوح فى الأفق وكذلك الدفع نحو التكامل الاقتصادى بين الخليج وإسرائيل، أطلق العراق والأردن ومصر مشروع تكاملٍ اقتصادى خاصٍ بهذه البلدان، تحت تسمية «الشام الجديدة»، تلميحا إلى أنه يُمكن أن يشكل لاحقا رافعة لإعادة إعمار سوريا بعد الحرب، وأيضا لبنان ما بعد انهياره الاقتصادى والمالى. وأوضح رئيس الوزراء العراقى أن هذا التكتل والتكامل يهدف إلى «مواجهة التحديات القائمة» فى البلدان المعنية.
لم يكن اختيار هذه التسمية بريئا، خاصة من العراق الذى لم يتم توصيفه تاريخيا أنه بين بلاد الشام، وكذلك مع مصر التى لم يتم ربط ثقافتها مع بلاد الشام سوى من قبل جبران خليل جبران!. وسيجِد «الغربيون» صعوبة فى ترجمته، إلا إذا أصروا على ترجمة «داعش»، الدولة الإسلامية فى العراق والشام، عبر تعبير Levant. وهو ليس «المشرق» الذى يضم الخليج. والأهم من ذلك أنه، خلافا لطرح البنك الدولى، يعتبر هذا التكتل تركيا خارجه... وكذلك ضمنيا إيران وإسرائيل.
•••
واضحٌ أن البلدان الثلاثة التى أطلقت مشروع «الشام الجديدة» تواجه تحديات اقتصادية آنية واستراتيجية كبيرة. فالعراق الثرى بالنفط عاجز عن تأمين حاجته حتى من الكهرباء والمشتقات النفطية، وفقد إمكانياته الزراعية والصناعية التى كانت مشهودة قبل غزو 2003. وبالتالى لا يستطيع تأمين طموحات شبابه فى العمل الكريم، وها هم يهاجرون (عبر بيلاورسيا مثلا)، حتى من كردستان العراق «المستقر» نسبيا بحماية أمريكية. والأردن فقد دوره كممر للبضائع نحو الخليج، منذ انطلاق الصراع فى سوريا ومع تطور التطبيع الخليجى ــ الإسرائيلى. أما مصر، فأفضل حالا نسبيا، إلا أن التساؤل يبقى عما بعد مشاريع البنى التحتية «الكينزية» (نسبة إلى نظريات جون مينارد كينز فى تحفيز التنمية الاقتصادية) الضخمة وتصدير الغاز والكهرباء؟
أضِف أن بلدان توسع «الشام الجديدة» المرتقبة تواجه أيضا تحديات ضخمة. فأى دورٍ للبنان بعد صعود دبى كقطبٍ أساسى للمصارف والخدمات والتجارة العالمية؟ وما النشاط الإنتاجى الذى يُمكن أن يُخرِج هذا البلد من انهياره الحالى؟ أما سوريا، فكيف تتم إعادة إعمارها بعد الحرب والدمار، بمعنى إعادة نهوض إنتاجها الاقتصادى وليس مشاريع المضاربات العقارية وشراء ما بقى من أصول الدولة التى يتربص بها الكثيرون، داخليا وخارجيا؟
كل هذا دون التغاضى عن واقع أن كل هذه التحديات الاقتصادية كلها تعنى مجتمعات وشعوبا وتشكل مصدر معيشتها، فى حين تشهد موجات نزوح داخلية وهجرات بينها وإلى الخارج بشكلٍ غير مسبوق. هذا فضلا عن تنامى الفقر بعد عقودٍ من التنمية، وعن تداعيات أزمة وباء الكورونا وأزمات المنطقة والعالم. هذه المجتمعات وطموحات شبابها وشاباتها تشكل فى الحقيقة السبب الموجب لإيجاد سبل لمواجهة هذه التحديات.
•••
وواضحٌ أيضا أن تسريع التكامل الاقتصادى بين البلدان الثلاثة، أو الخمسة بمفهومٍ أوسع، يحمل فى طياته الكثير من «القدرة الكامنة على التنمية»، حسب التعبيرات التى يستخدمها البنك الدولى. إلا أن هذا التكامل أبعد بكثير من قصة الخدمات التى يروج لها. لكن عملية التسريع المقترحة تحتاج إلى قفزة نوعية فى «الشراكة» بين هذه البلدان للذهاب إلى أبعد من شعار مرحلى يزول بزوال مبرراته السياسية الآنية كما كان الحال بالنسبة لمشروع «المغرب العربى الكبير».
لكن يبقى غير الواضح هو كيفية تعامل القوى الاقتصادية الصاعدة فى المنطقة، وخاصة تركيا ومجلس التعاون الخليجى، مع مثل هذا المشروع وقفزة. كذلك هو الأمر بالنسبة للاتحاد الأوروبى الذى لا يدمِج العراق فى «الشراكة الأورو ــ متوسطية»، فى حين يدمج الأردن بها على الرغم من عدم وقوعه على البحر المتوسط. كما من غير الواضح كيف يُمكن للبنان أن ينخرط بشكلٍ فعلى فى مثل هذا المشروع، فى ظل أزمته الراهنة، خاصة السياسية؟
أما الغموض الأكبر فيكمُن فى تموضع «الشام القديمة»، أى سوريا، من مثل هذا المشروع. فسوريا شهدت دمارا كبيرا وتخضع لإجراءات أحادية الجانب (العقوبات) قاسية من جانب الولايات المتحدة، ويرتبط رفعها بتقدم حل سياسى فى البلاد وإن كان خطوة خطوة. وهذا قد يعنى بشكلٍ ما أن يكون انخراطها فى مشروع الشام الجديدة سبيلا للتقدم، ولو بإيقاع بطىء، نحو إيجاد سبُل للإنعاش الاقتصادى دون توقع ألا تزال العقوبات سوى تدريجيا على مدى طويل وبشكلٍ انتقائى.
يبقى السؤال الحقيقى هو حول ماهية الخطوات القادمة للدول الثلاث صاحبة المشروع، وللبنان وسوريا وحول مدى ارتباط ما تفرضه دوافع آنية مع ما تتطلبه رؤية بعيدة الأمد (استراتيجية)، تؤسس لما هو أبعد من التطورات السياسية فى كل بلد؟ وهذا السؤال لن يجد جوابه دون تبنى مجتمعات الدول الخمس منظور أن مصائرها مرتبطة بشكلٍ كبير... مثل هذا المنظور لم يترسخ واقعيا حتى اليوم.