كتب المفكر والناقد الكبير الأستاذ محمود أمين العالم فى مجلة الآداب البيروتية فى أبريل عام 1958نقدا يعرض رأيه فى شعر الدكتور عبدالقادر القط، وقد رد عليه القط فى العدد التالى من المجلة نفسها، كما أثبت القط رأى الأستاذ العالم ورده عليه ضمن ما أثبت فى مقدمته النقدية الضافية والمتميزة التى صدَّر بها ديوانه «ذكريات شباب» عند نشره فى ديسمبر من العام نفسه، التى تعد شاهدا حيا على صراع فكرى وأدبى بين فلول التيار الرومانسى وإرهاصات التيار الواقعى فى الشعر العربى المعاصر.
كان القط فى هذه الفترة يقف على الأعراف بين تيار رومانسى أخلص له فى إبداعه الشعرى، وبين تيار واقعى جديد يواكب الثورة والقومية العربية شرع فى الحماسة له نقديا فى توقيت مبكر، ولو من باب المجاملة السياسية.
وإذا كان القط يذكر فى بداية مقدمته أن سفره إلى أوروبا خمس سنوات كان سببا رئيسيا فى تأخر نشر الديوان الذى كتب قصائده بين عامى 1941 و1943، فإنه يؤكد أن تردده فى نشره بعد عودته أيضا يرجع إلى «أن لونا جديدا قد ظهر فى الشعر العربى، فنبذ هذا الإطار الذى كنت أنظم فيه، وتلك التجارب الذاتية التى صورتها فى شعرى القديم وأحدث بهذا ثورة فنية كنت فى أول الأمر من أكثر الناس انتصارا لها، وأحسست أنه ينبغى أن أتريث حتى أرى ما يكون من أمر هذا المذهب الجديد، وحتى لا يكون هناك شىء من التناقض بين نشرى لقصائدى القديمة وبين حماستى للشعر الجديد».
وقد انقسم رأى العالم فى شعر القط إلى قسمين الأول موضوعى والآخر فنى، وفيما يتعلق بالجانب الموضوعى فإن العالم يرى أن «الخاصية العامة لشعر الدكتور القط أنه من حيث المضمون فاقد لهدف محدد وإن كشف عن جهد دائب للوضوح والاستقرار. ولكنه سأمان، ملول، قلق، متعلق دائما برؤيا بعيدة يتوقع منها معجزة الخلاص. وهذا ما يشيع فى شعره أحيانا مسحة تفاؤلية ولكنها غائمة كذلك».
وقد رد القط على هذا الاتهام قائلا: «أما أن شعرى فاقد لهدف محدد فهذا صحيح، إذا كان المراد أن يلزم الشعر خطا ضيقا مستقيما لا يحيد عنه، وما أظن أحدا من الناس يستطيع أن يحدد هدفه من الحياة تحديدا دقيقا جامدا غير قابل للتغيير. والأستاذ العالم نفسه يقول «وليس معنى هذا أن كل شاعر له اتجاه عام جامد، بل إنه يخضع لمنحنيات متعددة من التغير على المدى الطويل من حياته التعبيرية». «ولست أدرى بعد قوله هذا لماذا يطلب منى أن يكون لى هدف محدد؟!».
وعلى الرغم من ذكاء الطرح والرد، فعلينا تسجيل أن الحديث عن «هدف» مضمونى للشاعر سواء كان محددا أو غير محدد، قد أصبح من طرائف التراث النقدى فى رؤية النظريات النقدية الحديثة.
أما قول العالم عن شعر القط أنه سأمان ملول قلق متعلق برؤية غائمة يتوقع منها معجزة الخلاص، فهو يعلق عليه قائلا: «أنا سعيد، إذا استطعت أن أنقل هذا الإحساس إلى الأستاذ العالم، فإنى بذلك أعبر عن تجربة العصر والبيئة التى نعيش فيهما. فلست وحدى القلق الملول، بل إن ملايين من الشباب العربى يعانون هذه التجربة ويحسون بقلق غامض لا يدركون كنهه لما فى حياتهم من دواعى الكبت والفشل، ولكنى لم أكتف بمجرد التعبير عن هذا القلق.
بل «تعلقت برؤيا غائمة أتوقع منها معجزة الخلاص»، وتلك هى أول مرحلة فى سبيل التحول من الرؤيا الغائمة إلى الرؤية الصادقة المبصرة إذا تمشينا مع التطور الطبيعى للمجتمع فى كفاحه نحو مستقبل أفضل».
والمدقق فى الطرح والرد يلاحظ أن العالم والقط يستندان إلى منهج نقدى واحد يفترض ضرورة انعكاس صورة الواقع الاجتماعى فى شعر المبدع بطريقة تكاد تكون آلية، لكن الخلاف بينهما يكمن فى أن العالم يراه واقعا متفائلا حافلا بالثورة ومبشرا بالقومية العربية، بينما يراه القط واقعا مقلقا غائما لم تتضح بعد معالم النهاية التى يمكن أن نصل إليها على يديه. وقد تجاوز النقد الحديث هذا الموقف جملة حتى عند أصحاب المناهج الأيديولوجية الذين أخذوا يدعون إلى ضرورة توارى المضمون الثورى خلف التشكيل الجمالى للنص.
أما على المستوى الفنى فإن الأستاذ العالم يتحفظ على شعر القط لأنه «يتمسك بالصياغة التقليدية، بالبيتية المقفلة، والرتابة فى عدد أبيات المقطوعة الشعرية، مما يجعل لبلاغته طبيعة زخرفية تفقد الكثير من صوره الرائعة حيويتها الدافقة».
بينما يتخذ القط فى رده هذه المرة وجهة مختلفة لا تبدأ بدفاعه عن اختياره الفنى، بل تبدأ بهجومه على الاتجاه الفنى الذى يخالفها معتمدا على اقتباسات من أقوال العالم نفسه حيث يقول: «والأستاذ العالم معجب أشد الإعجاب بمنهج الشعر الحديث الذى لا يتمسك بالصياغة التقليدية، بالبيتية المقفلة، والرتابة فى عدد أبيات المقطوعة» وأحب أن أصارحه بأنى لا أقل إعجابا بالجيد من هذا الشعر.
ولكن لا أراه الوسيلة الوحيدة للتعبير الشعرى الموفق، ولا أرفض ما عداه من الشعر لمجرد البيتية المقفلة والرتابة فى عدد أبيات المقطوعة. والشعر الجديد مازال باعتراف الأستاذ العالم يمر بدور التجربة وهو «ضعيف فى التعبير والصياغة» كما يقول، وهذا أمر خطير. فالأستاذ العالم يريد أن «يكسر رقبة البلاغة العربية» التى تعنى فى الغالب بالصياغة والزخرف.
لكن البلاغة الجديدة مع ذلك تستحق «كسر رقبتها» هى الأخرى. فهى لم تزد على أن نقلت العناية من الصياغة إلى المضمون ففعلت ما كانت تفعله البلاغة القديمة من فصل غير طبيعى بين اللفظ والمعنى، والأدب كما يقرر الأستاذ العالم ـ حين يتحدث عن النظريات دون التطبيق ـ كلٌّ متماسك لا يتجزأ: إما أن يكون أدبا أو لا يكون. والشعر الذى يمكن أن نصفه بأنه «ضعيف فى الصياغة والتعبير» «لا يمكن أن يعد شعرا».
إننى لا أشك فى أن النقد الذى كتبه العالم لشعر القط هو الذى دفعه إلى نشر ديوانه فى نهاية العام مشفوعا بهذه المقدمة النقدية التى لا يغنى عرض بعضها عن قراءتها كاملة، فشكرا للأستاذ العالم وشكرا للدكتور القط.