أن يكون الأرمن قد تعرضوا لمذبحة فى نهاية الحرب العالمية الثانية على يد العثمانيين، فذلك أمر لا يمكن، بل لا يجوز إنكاره. إن الانتشار الأرمنى فى سوريا ولبنان، وفى أوروبا وأمريكا دليل حى على ذلك.
ولكن من يدعى أن هذه المذبحة هى الوحيدة من نوعها؟
ألم يرتكب اليابانيون مذبحة فى الصين، بل وفى العديد من دول شرق آسيا؟
ألم يرتكب البريطانيون مذابح فى أفريقيا خاصة فى جنوب افريقيا؟
ألم يرتكب الأمريكيون مذابح إبادة ضد الهنود الحمر فى الولايات المتحدة؟
ألم يرتكب البرتغاليون والإسبان مذابح ضد السكان الأصليين فى أمريكا الجنوبية؟.. ألم يرتكبوا قبل ذلك مذابح ضد المسلمين بعد سقوط غرناطة؟
ألم يرتكب الروس الشيوعيون مذابح ضد شعوب آسيا الوسطى؟
ألم يرتكب الألمان النازيون مذابح ضد اليهود فى ألمانيا وفى العديد من الدول الأوروبية التى احتلوها؟
ثم ألم يرتكب الفرنسيون المذابح فى الجزائر عندما اعتبروها جزءا من فرنسا؟
إن تاريخ شعوب العالم حافل بالمذابح. ولعل أحدثها المذابح التى يتعرض لها الفلسطينيون على أيدى الإسرائيليين.
●●●
بعض هذه الشعوب اعترف بارتكابه المذابح واعتذر عنها. اليابان اعتذرت للصين ولكوريا. وألمانيا اعتذرت وعوّضت لليهود ولإسرائيل الى حد الخضوع للابتزاز. حتى الفاتيكان اعتذر، أولا على لسان البابا الراحل يوحنا بولس الثانى، وثانيا على لسان البابا الحالى بنديكتوس السادس عشر عن المجازر التى ارتكبها المبشرون الكاثوليك فى أمريكا اللاتينية وأفريقيا.
واعتذرت الولايات المتحدة للهنود الحمر وحاولت التعويض عليهم. واعتذرت لمواطنيها من اليابانيين الذين اعتقلتهم جماعيا بعد العملية العسكرية اليابانية على بيرل هاربور، حيث فرضت عليهم الإقامة الجبرية فى معسكرات اعتقال حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.
إلا أن بعض الشعوب يكابر ويرفض الاعتذار وكأنه قديس أو ولى من أولياء الله لا يخطئ ولا يرتكب معصية. من هذه الشعوب الإسرائيليون، ومنها الأتراك، ومنها الإسبان والبرتغاليون. ومنها الفرنسيون.
لقد قضى أكثر من مليون جزائرى على أيدى قوات الاحتلال الفرنسية. وتلك جرائم اعترف بها مفكرون وعلماء وسياسيون فرنسيون كبار. ولعل من أبرزهم فرانسوا هولاند زعيم الحزب الاشتراكى الفرنسى والذى أعلن فى عام 2006 «إن فرنسا خسرت روحها فى الحرب الجزائرية وعلينا أن نقدم الاعتذار الى الشعب الجزائرى». لكن الدولة الفرنسية ما زالت تتنكر للمجزرة، وإن كانت لا تستطيع أن تنكرها. وكانت فرنسا فى عام 1999 قد اعترفت بأن الحرب الجزائرية كانت أسوأ حرب لها منذ الحرب العالمية الثانية. ولكن هذا الاعتراف الذى جاء بعد 37 عاما على استقلال الجزائر لا يسمن ولا يغنى من جوع الحقيقة، وهى أن فرنسا ارتكبت مجزرة فى الجزائر. وان للجزائر حقا مؤجلا على فرنسا. من هنا كان الرئيس التركى رجب طيب أردوغان على حق عندما اتهم فرنسا بارتكاب مذبحة فى الجزائر. إلا أن نقطة الضعف فى توجيه هذه التهمة الصحيحة، إنها جاءت رد فعل على قانون فرنسى يعاقب من ينكر المذبحة الأرمنية فى تركيا.
طبعا ليست الحكومة التركية الحالية مسئولة عن تلك المذبحة. ولا الحكومة الفرنسية الحالية مسئولة عن المذبحة التى وقعت فى الجزائر. ولكن مسئولية كل منهما معنوية، لأن الحكم استمرار. لا يقلل من فداحة المذبحة التى تعرض لها الجزائريون على يد القوات الفرنسية، إن التهمة الموجهة إلى فرنسا على لسان الرئيس التركى جاءت كرد فعل سياسى. فالمذبحة وقعت. ولقد طالب الجزائريون الدولة الفرنسية حتى قبل ساركوزى ومنذ سنوات طويلة، ولمرات عديدة، بالاعتراف بالجريمة والاعتذار عنها. ورفع الصوت عاليا أحرار فرنسيون مؤيدين ومتعاطفين، لكن الدولة الفرنسية أدارت الأذن الطرشاء لكل هذه النداءات.. حتى جاء رد فعل الرئيس التركى. ويشكل الفرنسيون المتحدرون من أصول جزائرية شاهدا حيا على استمرار المذبحة التى تعرض لها آباؤهم وأجدادهم. فهم يعانون اليوم من تمييز عنصرى ــ دينى ــ اجتماعى كان الدافع وراء أحداث العنف التى عرفتها ضواحى باريس ومارسيليا وسواهما من المدن الفرنسية فى عام 2005 وما بعده. كما أن الجيل الثانى أو الثالث من الجزائريين المتفرنسين يمزقهم الانقسام بين ثقافة الآباء الموروثة، وثقافة المدرسة والشارع المكتسبة. مما يجعلهم قنابل اجتماعية موقوتة. وبدلا من التعويض على هؤلاء برفع الحرمان والتمييز والاستيعاب فى المجتمع، تستمر «المذبحة» بوسائل أخرى.. حرمانا وتمييزا واضطهادا.
من هنا التساؤل: لو لم يقر مجلس الشيوخ الفرنسى القانون بتجريم انكار المذبحة التى تعرض لها الأرمن، هل كان الرئيس التركى رفع صوته منددا؟ وهل المطلوب من فرنسا مجرد الاعتراف والاعتذار أم أن المطلوب يتعدى ذلك الى التعويض ورفع التمييز الحرمانى؟
من حيث المنطق لا يحق لمتهم أن يتجاهل التهمة الموجهة اليه.. وأن يتهم الآخرين بمثلها. تركيا متهمة. وفرنسا متهمة. ومن شأن ذلك أن يقلل من صدقية القانون الفرنسى الجديد من جهة، ومن رد الفعل التركى على هذا القانون من جهة ثانية. فالدروس فى الفضيلة وفى الأخلاق الإنسانية لا يقدمها متَهَمون بعدم احترام حقوق الانسان. كلهم خطاؤون. «ومن كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر»، حسبما نسب الى السيد المسيح عليه السلام عندما رأى اليهود يرجمون امرأة بتهمة الزنى.
عندما بدأت عملية طى صفحة النظام العنصرى ــ الأبارتيد ــ فى جنوب أفريقيا، جرى استجواب عدد من القادة الأمنيين للنظام، وكان رئيس الأساقفة ديزموند توتو أحد المستجوبين. وكان يقول لهؤلاء القادة: «دلونا فقط أين دفنتم أحباءنا وأولادنا.. لا نريد منكم شيئا آخر سوى أن تقولوا لعائلات الضحايا نحن آسفون».
ولقد رفض بعض هؤلاء القادة أن يعترفوا.. وحتى أن يقولوا عبارة «انى آسف». وكان ذلك ذروة الغطرسة. وهى الغطرسة المتواصلة فى إسرائيل.. وفى فرنسا، وكذلك ــ مع الأسف الشديد ــ فى تركيا.
●●●
لقد اعترف العالم بالمذابح التى تعرض لها اليهود وأدانها واعتذر بسببها وأعرب عما هو أكثر من الأسف. أعرب عن الندم. ودفع ثمن ذلك غاليا ماديا ومعنويا. ولا يزال يدفع. ومن هذا الثمن المستمر، السكوت على جرائم مماثلة ارتكبها ويرتكبها الإسرائيليون ضد الفلسطينيين. ومن هذا الثمن أيضا، مصادرة الوطن الفلسطينى وتقديمه تعويضاً لليهود الذين نجوا من المذابح العنصرية فى أوروبا.
لقد عاقبت الولايات المتحدة وأوروبا الدولة الألمانية والشعب الألمانى لما ارتكبه من مجازر. ولكن الولايات المتحدة وأوروبا تدافعان عما ترتكبه إسرائيل من مجازر.
وجرمت فرنسا، الدولة التركية على ما تعرض له الأرمن قبل أكثر من مائة عام.. ونسيت الجرائم المماثلة التى ارتكبتها هى نفسها فى الجزائر طوال أكثر من مائة عام.
أليس عجيبا أن ترى فرنسا «القشة» فى عين تركيا.. ولا ترى «الخشبة» فى عينها؟