كان تحرك تركيا ــ حكومة وشعبا أثناء العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة وأهلها ــ ملفتا للنظر. فلقد أدانت الحكومة التركية العملية الإسرائيلية الوحشية بعبارات قوية، وكانت من أوائل من فعل ذلك، وقدمت مساعدات عينية للشعب الفلسطيني في غزة، كما تطوع عدد من الأطباء الأتراك؛ لنجدة ضحايا العدوان الإسرائيلي، وكانوا من أوائل المتطوعين الذين وصلوا إلى مدينة رفح المصرية، ورابطوا معا إلى أن يسمح لهم بالدخول إلى غزة نفسها.
ونظمت في مدينة إسطنبول العريقة أكبر تظاهرة في العالم تضامنا مع أهل غزة، وإدانة لما قامت به إسرائيل من أعمال بشعة يكاد العالم يجمع على أنها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وانتهاك صارخ للقانون الدولي والقانون الإنساني.
كما أدلى رئيس وزراء تركيا السيد أردوغان بحديث مطول لفضائية «الجزيرة» قال فيه كل ما يمكن لأي مواطن عربي أن يتمنى سماعه من أي مسئول في أي بلد في العالم في منطقتنا نفسها أو خارجها. وطلبت وزيرة الشئون الخارجية الإسرائيلية الإذن بأن تسافر إلى أنقرة؛ لشرح سياسة إسرائيل إلى حكومة تركيا وشعبها ـ كما ذكرت ـ فجاء الرد واضحا وحازما: «نحن في تركيا نرحب بتلك الزيارة، ولكن بعد وقف العدوان على غزة».
وليس هذا الموقف المناصر لقضية عربية بجديد على تركيا الحالية، فكان موقف الحكومة التركية وكذا موقف الشعب التركي قبل وأثناء العدوان الأمريكي على العراق على نفس المستوى من التعاطف مع شعب العراق والإصرار على الالتزام بما يفرضه القانون الإقليمي والواجب الوطني والمسئولية الإنسانية وحسن الجوار.
كانت الولايات المتحدة تتوقع من حليفتها تركيا ـ العضو معها في الحلف الأطلسي ـ أنها ستنضم إلى التحالف المعتدى على العراق وإذا لم تفعل ذلك، فإنها ستسمح بأن تستعمل الولايات المتحدة الموانئ التركية والقواعد العسكرية فيها، وفضاءها الجوى من أجل عملها العسكري أثناء الحرب على العراق في ربيع سنة 2003، وإذا بالحكومة التركية ترفض ذلك وتمتنع عنه كله جملة وتفصيلا. وأبلغت أنقرة واشنطن بأنها لن تشارك في العدوان ولن تسمح باستعمال موانئها وأراضيها من أجل دخول الأسلحة والذخيرة والتموين ومرورها فيها، ولن تسمح للقوات الأمريكية والقوات المتحالفة معها باستعمال قواعدها ومطاراتها فقط، بل إنها لن تسمح حتى بمرور الطائرات المغيرة على العراق عبر الأجواء التركية.
فاستغربت الحكومة الأمريكية واستنكرت وترجت وضغطت وهددت، وارتفعت الأصوات في الكونجرس؛ لتدين هذا الموقف من «الحليفة» التركية، وانضمت أقلام كبار المعلقين في الإعلام الأمريكي إلى تلك الحملة، لكن تركيا بقيت صامدة في موقفها، و أيد البرلمان التركي موقف حكومته بشدة في إدانة الحرب الظالمة على العراق.
فما الذي حدث بعد ذلك؟ هل نفذت الحكومة الأمريكية تهديداتها بمعاقبة تركيا؟ هل سحبت واشنطن تأييدها لطلب تركيا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي؟ هل طالبت الولايات المتحدة بطرد تركيا من حلف الناتو «الحلف الأطلسي»؟
لم يحدث شيء من ذلك على الإطلاق، بل إن الولايات المتحدة أدركت أن تركيا اليوم ليست تركيا الأمس، وأن أنقرة لم تعد تنتظر الأوامر التي تأتى إليها من واشنطن فتنفذها دون سؤال أو مناقشة مع مبادئها ومصالحها ومشاعر شعبها، بل هي تصر على أن تُعامل من قبل الجميع، بما في ذلك الولايات المتحدة بصفتها شريكا يتم سماع رأيه مثلما تؤخذ مصالحه بعين الاعتبار، فلا يفرض عليه أي طرف مهما كان قويا ما لا يراه هو معقولا ومقبولا ومتوافقا مع مبادئه ومصالحه.
ولم تستطع الولايات المتحدة إلا أن تقبل هذه النقلة النوعية في الموقف التركي، وأن تغير ـ وهى الولايات المتحدة ـ من سلوكها تجاه الحليف التركي. وكما سمعت أحد المطلعين في الولايات المتحدة يقول في الماضي: «كنا إذا أردنا من تركيا أن تتخذ موقفا معينا، نكلف سفيرنا في أنقرة بأن يبلغ تلك الرغبة إلى رئيس الوزراء التركي فتمثل الحكومة التركية، أما الآن فكلما كان هناك أي موضوع تكون تركيا طرفا فيه. فنحن نتصل بتركيا قبل اتخاذ القرار ونتشاور معها؛ لنرى ما إذا كانت تقف معنا أم أن لها رأى آخر».
فما الدروس التي نستخلصها من هذا كله؟
أولا: إن تركيا بلد صدق للأمة العربية وحكوماتها وشعوبها، فهي دولة كبيرة في منطقتنا لها قاعدة اقتصادية معتبرة، ونفوذ دبلوماسي وسياسي فعال، ويمكن، بل يجب على دولنا أن تنمى علاقات تعاونها معها في جميع المجالات.
ثانيا: يتكلم الغرب بصفة عامة، والولايات المتحدة بصفة خاصة، عن «الشرق الأوسط الكبير» أحيانا وعن «الشرق الأوسط الواسع» أحيانا أخرى، وفى كلتا الحالتين فالمقصود هو أن يكف العرب عن أي عمل من أجل تقوية التعاون فيما بينهم والتضامن بين شعوبهم، كما أن الحديث عن هذا الشرق الأوسط يهدف إلى فرض قبول إسرائيل من قبل جيرانها العرب دون مطالبة إسرائيل نفسها بأي شيء.
وأعتقد أن الدول العربية تستطيع أن ترد على ذلك في المقام الأول بالإصرار على التعاون فيما بينها، ثم بتكثيف التشاور مع تركيا والتعاون معها هي والدولة الجارة الكبيرة الأخرى ـ أعنى الجمهورية الإسلامية الإيرانية ـ فما يجمعنا معهما أكثر وأكبر بكثير مما يفرقنا، وقد يكون لنا حول هذا الموضوع حديث أطول في المستقبل.
ثالثا وأخيرا وليس آخرا: فإن المواقف التركية الجديدة التي فرضتها على الولايات المتحدة بشكل خاص والغرب وبقية العالم بشكل عام، لا تحترم إلا من يحترم نفسه ومشاعر شعبه وتاريخ أمته وحضارته ومصالح بلاده ومبادئه، وقد سمعت أحد الدبلوماسيين الأمريكيين يقول إنهم لا يولون اهتماما كبيرا للمواقف العربية الرسمية، كما لا يولون أي اهتمام للمشاعر الشعبية في الوطن العربي، وذلك لأن المسئولين العرب ـ على حد تعبير ذلك الدبلوماسي الأمريكي ـ يقولون في الخفاء غير ما يقولونه في العلانية، أما المشاعر العربية ـ على حد قوله ـ فهي لا تتعدى بعض المظاهرات في شوارع مدنهم يتعرضون أثنائها إلى منشآت دولهم ويحرقون خلالها سياراتهم وبعض أعلامنا وأعلام إسرائيل، وعلى أي حال فتلك المظاهرات لا تطول أكثر من بضع ساعات، أو على أسوأ حال، يومين أو ثلاثة».
يذكرني هذا الحديث كله بشعار «ارفع رأسك يا أخي»، الذي كنا نردده مع إذاعة صوت العرب في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.
ألسنا في أمس الحاجة إلى إحياء هذا الشعار والعمل على جعله مبدأ نلتزم به معا؟