فى التطوير الأخير لمناهج اللغة العربية بكتب الوزارة يسبق كل وحدة من وحدات المنهج تحديد الأهداف التعليمية التى يفترض أن يستوعبها الطالب بعد انتهائه من دراسة الوحدة، وهذه هى الرسائل المقصودة التى يتم تحصيلها بنسب متفاوتة وفقا لمهارة المدرس وقدرة الطالب، ولكن تبقى هناك رسائل أخرى تتسرب من بين سطور هذه الكتب إلى عقول الطلاب، ولأنها غير مباشرة وغير مقررة فربما كانت أشد تأثيرا فى نفوسهم.
والكتاب الذى أتحدث عنه اليوم هو كتاب «اللغة العربية» للصف الأول الثانوى، وأول ما يمكن ملاحظته على هذا الكتاب هو التصميم البدائى القبيح للغلاف والإخراج الداخلى المتواضع لمادته، مما يسهم فى هبوط الذوق العام للطلاب ويرسخ فى نفوسهم عبر سنوات الدراسة الممتدة اعتياد القبح دون قصد، فى حين أن إسناد تصميم مثل هذه الأغلفة لفنانين متخصصين يمكن أن يجعلها نافذة جمالية تحبب الطالب فى الكتاب وترتقى بالذوق العام.
وإذا انتقلنا إلى الدرس الأول فى الكتاب وعنوانه «من نعم الله على عباده» فسنجد أنه يقدم الآيات من 77 إلى 83 من سورة النحل، ومع التأييد التام لأن دراسة نماذج من القرآن بالإضافة إلى ما فيها من خير عميم للدنيا والدين تسهم بشكل فعال فى الارتقاء بالثروة اللغوية ومستوى التعبير الأدبى للطلاب، فإنه يجب ملاحظة أن كتب القراءة مقررة على المسلمين والمسيحيين ولهذا يجب اختيار الآيات المقررة بعناية وشرحها بدقة لا تحتمل اللبس، فالآية 81 من سورة النحل تنتهى بقوله تعالى: «كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون»، ولا يوجد فى معانى المفردات شرح لكلمة «تسلمون»، أما الشرح الإجمالى للآيات بالكتاب فيقول: («كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون» والإسلام استسلام وسكن وركون، ولذلك فإن أسلموا فبها، وإن تولوا وشردوا فما على الرسول إلا البلاغ).
وأقل ما يقال عن هذا الشرح أنه ملتبس، لأنه لا يوضح أسباب النزول وبالتالى لا يُعَيِّن المُخَاطَب المقصود فى الآية، ولا يستعين بمعانى المفردات لدى كبار المفسرين مثل القرطبى الذى يوضح أن كلمة «تسلمون» فى هذه الآية معناها «تستسلمون وتنقادون إلى معرفة الله وطاعته شكرا على نعمه»، وهو تفسير إنسانى رحب لا يثير حساسية فى نفس الطالب غير المسلم.
وإذا كان هذا هو بداية الكتاب، فإننى أدعوك إلى الانتقال مباشرة إلى نهايته المتمثلة فى الإرشادات المطبوعة على ظهر الغلاف، والتى تنص فى النقطة الثانية منها على ما يلى: «احرص على أن تكون قدوة ومثالا للإنسان العربى المسلم» متجاهلة وجود طلاب مسيحيين أشقاء فى المواطنة نقرر عليهم هذا الكتاب.
والطريف أن النقطة الخامسة من هذه الإرشادات نفسها تنص على ما يلى: «التطرف والتعصب دليل على ضيق الأفق وضعف الحجة وقلة المعرفة»، وليت ذلك الموجه الذى كتب هذه الإرشادات مجتمعة يقرأ ما يكتب، أو يعى ما يقول، ليدرك أن ما يردده من شعارات لا يؤمن بها تفضحه سقطاته التعبيرية فى الصفحة نفسها.
أما الملاحظة التالية التى أود الإشارة إليها فهى تتعلق بموضوع الحب، ففى الوحدة الأولى الخاصة بالقراءة يتضمن المقرر جزءا من مسرحية «مجنون ليلى» لأحمد شوقى يبدأ بالتقديم التالى: «هذا المشهد من الفصل الأول، يتحدث الشاعر فيه عن البادية وتقاليدها، ومن هذه التقاليد أنها كانت تُحَرِّم زواج الفتاة من فتاها الذى يتغزل فيها».. وبغض النظر عن اختلافى مع اختيار هذا المشهد الذى يكرس لوجهة النظر البدوية فى منع الحب، بخاصة أن المسرحية تتضمن مقاطع عشق عفيف عالية الشعرية كانت ستسهم فى جذب الطلاب لمحبة الشعر،لكن الكارثة الحقيقية تتمثل فى تطبيق هذه الرؤية البدوية عند اختيار النصوص المقررة.
فعلى الرغم من أن مؤلف الكتاب يعترف فى القسم الثالث الخاص بالتنظير لدراسة الأدب فى العصر الأموى بأنه قد ظهر فى هذا العصر ثلاثة أغراض جديدة فى الشعر العربى هى: الشعر السياسى والغزل والنقائض، وعلى الرغم من إشارته إلى أنه «قد كان الغزل الجاهلى مقدمة للقصيدة، فأصبح الغزل غرضا شعريا مستقلا، بل وقف عليه بعض شعراء العصر الأموى شعرهم كله»، وعلى الرغم من إسهابه فى الحديث عن الغزل الحضرى الذى يميل إلى الحسية، وعن الغزل البدوى العفيف «الذى قام على العاطفة الصادقة، وخلع على المرأة ثوبا من القداسة» وفقا لتعبير الكتاب، فإنه فى التطبيق وعند اختياره للنماذج الشعرية المقررة على الطلاب قد استبعد شعر الغزل تماما، وقام باختيار ثلاثة نصوص: الأول من الشعر السياسى لجرير ــ وهو ليس العمدة فى هذا المجال، فأين الكميت مثلا؟ ــ هذا بالإضافة إلى أن رأى النقاد فى المستوى الفنى للشعر السياسى الأموى يمثله قول الدكتور إبراهيم عبدالرحمن» لا ينبغى فيما يتصل بالقيمة الفنية للشعر السياسى عامة، أن نعول عليه كثيرا فأصحابه من الشعراء كانوا معنيين بالتعبير عن المضامين السياسية أكثر من عنايتهم بالصورة الفنية».
أما النصان الآخران فأحدهما لجرير أيضا والثانى للفرزدق، وكلاهما يهجو الآخر فى باب النقائض الذى يشير مؤلف الكتاب إلى أن به هجاء لاذعا، قبل أن يوجه حديثه للطلاب قائلا: «ولعلك لاحظت ما فى النصين من هجاء يبدو فيه روح الجاهلية، مع أن الإسلام قد حرم ذلك».
وينصب تعليقى على هذا الاختيار غير الموفق للنماذج الشعرية الأموية فى ملاحظتين: الأولى فنية، حيث يكرس هذا الاختيار لنماذج متواضعة المستوى لا تجذب الطالب ولا تحببه فى الشعر، على الرغم من أن هذا العصر يحتوى على روائع فنية لا نعرف لها نظيرا فى التراث العربى لقيس ليلى وكُثَيْر عزة وجميل بثينة وعمر ابن أبى ربيعة وغيرهم، ولا يمكن إغفال الاعتماد على ما كتبه الدكتور عبدالقادر القط تحديدا فى شعر الغزل الأموى.
أما الملاحظة الثانية فموضوعية، تتمثل فى أن استبعاد النماذج الشعرية التى تعبر عن العشق الطاهر الرقيق النبيل، وقصر الاستشهاد على نماذج من الشعر السياسى الذى يكرس الانحياز لفريق دون آخر أو من شعر النقائض الذى يعد نموذجا أعلى للكراهية والعنف والقبلية، يتضمن رسالة غير مقصودة بوأد التسامح وإشاعة التعصب.