ثورة مصر.. وعودة الروح - صبرى حافظ - بوابة الشروق
الثلاثاء 25 فبراير 2025 10:11 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

ثورة مصر.. وعودة الروح

نشر فى : الثلاثاء 15 فبراير 2011 - 10:50 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 15 فبراير 2011 - 10:50 ص

 لاشك فى أن ثورة مصر التى اندلعت يوم 25 يناير 2011 هى أكبر ثورة شعبية عارمة فى تاريخ مصر الحديث، هى ثورة شعب صبور ومتحضر وعظيم، يثبت دوما أنه فى المقدمة، وأن قدرات حدوسه المدهشة تتجاوز كل التنظيرات، وأنه يتخطى بحدسه وفعله معا كل التحليلات الركيكة التى صدعت رءوسنا بأن مصر حالة خاصة، وأنها غير جاهزة للديمقراطية. وكأنه لا ينفع معها إلا الفساد والاستبداد.

فتحية إجلال خالصة للشباب المصرى الجميل الذى صنع هذه الثورة، ورد الروح والأمل إلى مصر كلها، وإلى تلك الحفنة الصغيرة من الذين ظلوا قابضين على الجمر من أبناء جيلنا الذى هرم، يقاومون تلك التحليلات الركيكة، ويؤمنون بوطنهم وبشعبهم. تحية إكبار لهذا الجيل الشاب الذى فتح طاقة للأمل بعد أن سد الفساد والتردى والهوان، فى زمن ردىء طال بشكل كابوسى، الأفق أمامه من كل صوب. تحية لشباب الثورة وعنفوانه والذى أرجو منه الصمود والوعى فطريق الثورة صعب وطويل ومحفوف بالمخاطر.

لقد أنجز هذا الشباب ثورة عظيمة بحق، تتجاوز من حيث الاتساع والأهمية الوطنية والدلالات الرمزية معا ثورة القاهرة الأولى ضد الفرنسيس فى نهاية القرن الثامن عشر، وثورة أحمد عرابى ضد الاستبداد والقيود التى فرضها صندوق الدين، وهو التجلى الباكر لما أصبح يعرف فى زمننا بصندوق النقد والبنك الدولى، فى الربع الأخير من القرن التاسع عشر.

كما أنها عندى أعمق دلالة وأهمية من ثورة 1919، لأنه إذا كان من السهل تجميع المصريين بسبب صلابة نسيجهم وتماسكه ضد عدو أجنبى يحتل أراضيهم، وحول مطلب عادل هو حقهم فى الاستقلال. فإن ما أنجزته ثورة 25 يناير أمر أخطر وأشد صعوبة، وهو أن يلتف المصريون وبهذه الأعداد الضخمة غير المسبوقة، حول مطالب العدل والكرامة والحرية، وفى غياب واضح للمستعمر الأجنبى، برغم حضوره الكثيف وغير المرئى، وربما والأشد فاعلية من أى حضور مرئى. وأعنى هنا الاستعمار الجديد، وأشرس تجلياته المعاصرة، الاستعمار الاستيطانى الصهيونى فى فلسطين.

لقد اعترف الجميع بأنها بزخمها وعرامتها وشبابها قد غيرت مصر إلى غير رجعة، حتى قبل أن تحقق مطلبها الأساسى والمشروع. وأقر العدو قبل الصديق بأهمية هذه الثورة، وخاصة بعد أن عمّدت ممارسات النظام الباطش خطواتها بالدم. وقابلت كل عدوان بربرى غاشم عليها بالصمود الراقى والتحضر النبيل، النابع من وعيها العميق بأنها تحتل الموقع الأخلاقى الأعلى، فقدمت للعالم نموذجا باهرا للتظاهر الشعبى السلمى.

إذ حرص المشاركون فيها، رجالا ونساء، وأطفالا برغم تعدادهم الكبير، وتنوع مشاربهم وخلفياتهم الاجتماعية والثقافية والدينية على احترام القانون الوضعى والإنسانى، والمحافظة على الملكية العامة والخاصة. ونجحوا فى أن ينزعوا عن النظام المستبد الفاسد كل شرعية ومصداقية أمام الرأى العام الدولى. بينما جسد أعداؤها فى الداخل والخارج انحطاطهم الأخلاقى والعملى معا. ففى الداخل قدم مهاجموها من ركاب الجمال والخيل والبغال (وهذه ليست مجرد صدفه، بل هى صورة دالة على تفكيرهم وانتمائهم إلى عصور الإبل والتخلف) نموذجا ساطعا على ممارسات النظام القائم على البلطجة، وعدم احترام أى قانون.

إذ قدم أعداؤها من البلطجية والشرطة السرية ومؤيدى مبارك صورة واضحة للخارجين على القانون، المسلحين بالسكاكين والعصى والهراوات وزكائب الحجارة. أما أعداؤها فى الخارج، وخاصة فى الولايات المتحدة الأمريكية، فقد انكشف زيف دعاواهم بالدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان. وبدأ تخبطهم وتناقض تصريحاتهم وعملهم الدءوب على إنقاذ النظام فى الكشف عن أنهم يكيلون بمكيالين. فلو قامت عشر هذه الثورة فى إيران مثلا أو حتى فى فنزويللا لأقامت الولايات المتحدة الدنيا ولم تقعدها إلا بعد رحيل النظام.

أما فى مصر، حيث يمثل النظام الذخر الاستراتيجى للولايات المتحدة، وربيبتها دولة الاستيطان الصهيونى فى فلسطين، فإنهم يصابون بالعمى والخرس وتخبط التصريحات، التى كان آخرها تصريح فرانك ويزنر، الذى سبق لمكتبه Patton Boggs أن وقع عقودا عديدة مع النظام المصري، وساعده فى النزاعات الخاصة بالمبيعات العسكرية، وفى تنظيم لقاءات مع أعضاء الكونجرس ولجانه. ناهيك عن أنه عضو مجلس إدارة الشركة الفرعونية الأمريكية للتأمين (الكو) والجامعة الأمريكية. أما دولة الاستيطان الصهيونى فى فلسطين، التى تتشدق بأنها الديمقراطية الوحيدة فى المنطقة، فإنها تعمل منذ اندلاع الثورة على وأد الديمقراطية الوليدة فى مصر، وعلى الضغط على الولايات المتحدة والغرب للوقوف مع النظام المصرى ضد شعبه.

لقد أعادت هذه الثورة النبيلة الروح إلى شعب مصر الذى عانى من الإحباط والخذلان والهوان لأكثر من ثلاثة عقود. وحررته من الخوف الذى فرضته عليه مؤسسة أمنية جهنمية منفلتة من أى روادع قانونية أو أخلاقية. وأسست حق الشعب فى التعبير، وفى تقرير مصيره واختيار حاكمه، وفى أنه المصدر الأول والأخير لأى سلطة وأى شرعية. وإذا كانت ثورة 1919 قد أعادت الروح لمصر حسب رواية توفيق الحكيم الشهيرة (عودة الروح) ووحدت الشعب الذى كان كان منقسما على نفسه لايجمعه إلا حب سنية، رمز مصر البهى فى الرواية، فإن هذه الثورة كشفت لنا أن طاقة الشعب على الفعل والعطاء لا تحد، وأن معدن المصريين لايزال سليما بعد عقود من الشحن الطائفى المقيت، والذى يبدو الآن من الأخبار التى كشفت عنها الصحافة مؤخرا، أنه كان مفبركا فى أجهزة القمع، والإرهاب المؤسسى المنظم، وقتل الروح المصرية، كى يستشرى الفساد ويتغوّل، وكى يتكرس الاستبداد ويتم توريثه للجيل التالى من المستبدين.

ولذلك فإنها فى اعتقادى لا تقل أهمية من حيث رمزيتها ووقعها والآثار التى ستترتب عليها معا عن الثورة الفرنسية التى أحدثت عملية تغيير ملحمية جبارة استغرقت ثلاث سنوات، فغيرت فرنسا إلى غير رجعة. أجهزت كلية على الحكم المطلق، كمفهوم: سواء أكان حكم الملك الموروث بالحق الإلهى، أو الإقطاعى المستبد بسطوة الملكية الكبيرة، أو القس الذى نصّب نفسه معادلا للدين وبديلا عن الله؛ وأطاحت بمفاهيم التراتبات التى كلستها المواريث والأعراف المهترئة؛ وعلقت مصابيح الاستنارة والعدالة والحرية لا فى سماء فرنسا وحدها، وإنما فى سماء القارة الأوروبية بأكملها؛ فانبثق منها فجر التحديث ليسطع على أوروبا كلها، ويضىء سماواتها بمفاهيم العقل والعلمانية والحكم الرشيد؛ وعمّدت بالدم مفهوم المواطنة والمساواة والفردية وحقوق المواطن التى لا يمكن المساومة عليها، ووضعها على نفس مستوى حقوق الوطن التى لا يمكن أيضا المساس بها. وكلها خطوط حمراء عمدتها الثورة بالدم الذى تدفق فى ساحات باريس وشوارعها، كما تعمّد الثورة المصرية قيمها ومفاهيمها الجديدة بالدم الذى تدفق فى ميدان التحرير بالعاصمة المصرية، وكل ميادين المدن المصرية الكبرى، وما يزال نهره الجارف يكنس فى طريقه فلول الفساد ومؤامرات الثورة المضادة.

والواقع أننى أحب هنا أن أؤكد على التناظر بين هذه الثورة المصرية الرائعة والثورة الفرنسية. فقد انطلقت الثورتان من نفس الأسباب: الحكم المطلق، وازدياد الدين الوطنى الذى تضاعف عشرات المرات فى عهد مبارك، واللامبالاة بمعاناة الطبقات الشعبية المسحوقة، أضف إليها الهوان الذى مرغ فيه النظام مصر بتحويلها إلى تابع تافه للمخططات الصهيونية والأمريكية فى المنطقة، فمن تراه يصدق صرخاته الراهنة ضد الإملاءات الخارجية والعقلية الاستعمارية. وبدلا من مجالس النبلاء والقساوسة فى حالة الفرنسيين، نجد فى الحالة المصرية اللصوص وسراق المال العام المدعوين برجال الإعمال، والتيارات السياسية المتأسلمة التى يحاول بعضها ركوب موجة الثورة الآن وإجهاضها.

أما بقية الفرنسيين الذين كان لمضاعفة عددهم فى الجمعية الوطنية عام 1789 الدور الحاسم فى اندلاع الثورة، فهم فى الحالة المصرية كل المصريين الذين لم يجدوا أمامهم إلا إحراق أنفسهم أو الخروج فى ثورة عارمة ترد الروح لمصر الخاملة، فلم يعد لديهم ما يخسروه غير قيودهم.

أقول إننى أؤكد التناظر بين الثورة المصرية والثورة الفرنسية لسببين: أولهما شيوع المقارنة بينها وبين الثورة الإيرانية، وهو أمر تروج له «إدارة الاستعلامات» فى الدولة العبرية، وهى إدارة أنشئت فى عهد أولمرت لصياغة خطاب سياسى يروج للرؤية الصهيونية، ويساهم فى فك العزلة التى أخذت تعانى منها الدولة العبرية بعد انفضاح وجهها العنصرى وممارساتها البربرية الحقيقية.

تروج له كى تجهض أى تأييد للثورة أو تعاطف معها فى الغرب، وكى تجيّش الرأى العام الغربى للوقوف ضد الثورة المصرية، التى يسعى الخطاب الصهيونى، من خلال الربط بينها وبين الثورة الإيرانية، إلى جلب كل العداء الغربى الراهن لإيران إليها. وثانيهما أن عليها أن تتأمل دروس الثورة الفرنسية وأن تهتدى بخطواتها. فلابد أولا من سقوط الباستيل كى يؤسس الشعب شرعيته ويكتب دستوره الجديد القائم على الشرعية الثورية، بعيدا عن عمليات ترقيع دستور استبدادى مهترئ. وعلى الحركة الثقافية المصرية الحرة والمستقلة، وعلى كل مثقفى مصر الشرفاء وفنانيها المخلصين أن يلتفوا حولها ويفعلوا ذلك من أجلها. يمكنوها من التمسك بمطالبها والاستمرار فى زخمها، كى تنتصر على المؤامرات العديدة التى تحاك لها فى أروقة السياسة الأمريكية، واللوبى الصهيونى، وقصور الرجعية العربية. وكى تؤكد شرعيتها الدستورية التى لابد أن تنهض لا على ترقيع الدستور الحالى الذى يكرس السلطات كلها فى يد الرئيس، فييسر له الاستبداد والحكم المطلق، وإنما على دستور جديد تماما ينهض على مطامحها الديمقراطية فى العدل والحرية، كالذى وضعته الثورة الفرنسية.

صبرى حافظ ناقد أدبي مصري مرموق، وأستاذ الأدب الحديث والمقارن بجامعة لندن. درّس في كبريات الجامعات الغربية. وله العديد من الكتب والأبحاث بالعربية والانجليزية، فاز أحدث كتبه بالانجليزية (السعي لصياغة الهويات) بجائزة (اختيار) الأمريكية لأهم الدراسات الأكاديمية لعام 2009.
التعليقات