لا يقتصر تأثير زلزال ثورة 25 يناير على الإطاحة بالرئيس السابق وإجباره على التنحى وإسقاط أركان نظامه وكشفهم وتعرية انحرافاتهم، وكشف الفساد، الذى ضرب بجذوره فى أرض الوطن طوال 30 عاما كاملة.
فقد أسقطت الثورة مفاهيم كادت ترسخ فى الذهن حول طبيعة مركز رئيس الجمهورية وما أحاط به من قداسة زائفة حالت دون الاقتراب منه أو نقده أو مساءلته، وتجاوزت ذلك الى فرض إرادة الشعب لمحاكمته وأسرته وكبار المسئولين فى نظامه، وهكذا فقد أرست الثورة مبدأ ستنتهجه مصر من الآن فصاعدا قوامه أن رئيس الجمهورية ليس فوق القانون، باعتباره موظفا عاما منتخبا من الشعب، ومن حق هذا الشعب أن يراقبه ويحاسبه ويسأله وإن تطلب الأمر محاكمته وعزله. هذا الشعب الذى لم يكن أبدا غافلا عن وجود سرطان الفساد داخل جسد مصر، لكنه لم يتصور أبدا أن استشراء هذا السرطان قد بلغ هذا الحد من قمة هرم السلطة إلى جميع المستويات، فقد كان الأمر بمثابة منظومة محكمة للنهب واستغلال النفوذ وكانت هذه المنظومة بمثابة الابن غير الشرعى لذلك الزواج الفاسد بين السلطة والثروة، ولذلك فالأمر الآن يحتم إيجاد ضوابط صارمة بشأن الرئيس القادم للدولة وكل ما يتعلق بثروته وذمته المالية هو وأسرته، كذلك عمل تحديد دقيق ومناسب لمخصصاته الرئاسية وإعلانها دون مواربة أو اخفاء، إذ إن من حق الرأى العام أن يكون على بينة من رواتب ومقررات ومخصصات المسئولين ومصروفاتهم.
وبرغم أن المادة 80، 81 من الدستور تحددان راتب رئيس الجمهورية ومخصصاته والقيود على تصرفاته المالية، برغم ذلك فقد انتهك النظام البائد هذه المواد وأرسلها إلى مثواها، حيث تعامل الرئيس وأسرته والمقربين منهم مع مصر كما لو كانت ميراثا اكتسبوه بالحق الإلهى، حيث تمخض حصاد ثلاثين عاما عاما عن وقائع فساد رهيبة لم ينج منها أى قطاع من قطاعات الدولة، بدءا من عمولات السمسرة وصفقات السلاح وجريمة تصدير الغاز الى اسرائيل مرورا بالمتاجرة بديون مصر والتربح منها وحتى نهب أراضى الدولة وبيع قلاعها الصناعية ومنشآتها الاقتصادية بأبخس الاثمان والتلاعب بالموارد الاقتصادية، وإهدارها بصورة لم يسبق لها مثيل.
ولعل تضخم الثروة الشخصية للرئيس وأسرته وما تشير اليه المعلومات من امتلاكهم أرصدة هائلة فى بنوك أوروبا وأمريكا والكاريبى والشرق الأقصى، وملكيتهم لشركات دولية مسجلة تحت مسميات وفى دول مختلفة، وكذلك الاسهم والمستندات والممتلكات العقارية، وكذلك النخبة المحيطة بهم من الحاشية ورجال الأعمال، واندفاعهم المتوحش لنهب وامتلاك الثروات، يوضح لماذا أصبح الاقتصاد المصرى ومن ورائه عموم الشعب المصرى هزيلا واهنا.
لقد استطاع الرئيس السابق طوال الثلاثين عاما الماضية أن يحافظ على النظام الرئاسى فى مظهره، لكنه حوله فى جوهره إلى نظام استبدادى ديكتاتورى، وكان قاب قوسين أو أدنى من أن يجعله نظاما وراثيا، فقد توسعت سلطات واختصاصات رئيس الجمهورية فى عهده الى أبعد الحدود، وهيمن على كل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية بشتى السبل حتى أحكم قبضته على مقاليد الأمور يسيرها كيفما تشاء إرادته دون رادع أو رقيب، وصار كملك مستبد ينقصه فقط أن يضع على رأسه التاج ويقبض بزمام يده على الصولجان.
ولذلك فإن التجربة الطويلة المريرة التى عاشتها مصر تحت حكم مبارك تجعلنا نقطع دون شك فى حتمية، التحول عن النظام الرئاسى الى النظام البرلمانى، فالنظام الرئاسى يضع السلطة التنفيذية فى قبضة رئيس الدولة الذى يرأس الحكومة أو يحدد من يرأسها وأن يختار مجموعة الوزراء، التى تعاونه فى تنفيذ سياساته، على النقيض من ذلك فإن رئاسة الجمهورية وفق النظام البرلمانى هى منصب شرفى، حيث تتركز السلطة التنفيذية فى يد رئيس الوزراء، الذى ينتمى إلى حزب الأغلبية فى المجلس النيابى، وذلك المجلس من سلطاته مساءلة رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والوزراء وسحب الثقة منهم، ولعل النظام البرلمانى الفرنسى بقواعده التى تفصل بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والبرلمان، بحيث تكون هناك رقابة متبادلة فيما بينها، يمثل أفضل النظم وأنسبها للتطبيق فى مصر فى ظل ما نبتغيه من تطبيق لمبدأ فصل السلطات وتوازنها.
إن ثورة 25 يناير التى قد قدمت للعالم مثالا ساطعا على الصمود والإصرار والتحدى، قد قامت من أجل مصر أفضل، مصر الحرية والعدالة والمساواة والتقدم، مصر دولة القانون والمؤسسات، ولذلك فإن مثول الرئيس السابق مبارك وأسرته وكل أركان نظامه دون استثناء أمام جهات التحقيق قد حقق مطلبا وطنيا له حجيته فى ظل ما تفجر من فساد وفضائح أضرت ضررا بليغا بمصالح الوطن وعصفت بمقدراته وهددت مستقبله، والرئيس السابق ليس أفضل من الرئيس نيكسون، الذى أثبتت التحقيقات تورطه فى فضيحة ووترجيت واستقال على إثرها، أو الرئيس كلينتون الذى تم التحقيق معه لقيامه بالكذب تحت القسم، أو مستشار ألمانيا هيلموت كول، الذى تم التحقيق معه فى قضايا مالية، ومؤخرا الرئيس الاسرائيلى السابق كاتساف، الذى أدين فى قضيتى اغتصاب وتحرش وحكم عليه بالسجن سبع سنوات مع الشغل، وجاء فى حيثيات الحكم أن ارتكابه لهذه الأفعال أثناء توليه منصبه يضاعف من جسامة ما ارتكبه من جرم.
إن مصر تستحق الأفضل، وليس أفضل من إجراء يتخذ فى الأونة الحالية سوى التوجه نحو المكاشفة والصراحة والشفافية وإحقاق الحق والعدل، ففى هذا ضمان لتطهير الجروح والتئامها على أساس سليم يضمن بقاء جسد هذا الوطن سليما متعافيا.