جرت انتخابات برلمانيّة فى لبنان.. هى الأولى منذ الانهيار المالى وتشكّل محطّة تاريخيّة. والحقيقة أنّ البلد ما زال يسود فيه مناخ واسعٌ من الحريّات العامّة، وهذا أمرٌ لا تجب الاستهانة به، خاصّةً فى المنطقة العربيّة. إلاّ أنّ أحدا لا يتوقّع أن تأتى هذه الانتخابات بتغييرٍ حقيقيّ يوقِف الانهيار ويتخطّى الأزمة ويحاسب السلطة التى أخذت لبنان.. إلى المجهول.
فهذه الانتخابات تقوم أصلا على نظامٍ انتخابيّ شديد التعقيد، صمّمته السلطة القائمة لإعادة إنتاج نفسها، فقط ليسمح بالكاد بتعديلاتٍ طفيفة فى موازين القوى بينها هى ذاتها. كما أنّ المال السياسيّ يلعب فيها دورا أكبر حتّى مقارنةً مع الماضى سواء عبر تمويل دولٍ خارجيّة لجزءٍ من عناصر السلطة ضدّ الأخرى أو عبر وسائل الإعلام التى استحوذ المتموّلون والمموَّلون على شاشاتها. هذا فى حين يخيّم الفقر بشكلٍ كبير.
اللافت أنّ هناك مراقبة دوليّة غربيّة كثيفة للتأكّد من «نزاهة الانتخابات»، من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى وغيرها، لم تنبُت بـ«بنت شفةٍ» عن المال السياسيّ أو الاستحواذ على الشاشات قبل الاستحقاق.. ولا يُمكن توقّع أن تقول الكثير بعده. رغم أن مراكز الأبحاث والرأى، التى تدعمها هى ذاتها، لا تتوقّف عن تبيان هذه الانتهاكات. هكذا ابتعد الموقف كثيرا عن مشهد الرئيس الفرنسيّ عندما هاجم الطغمة السياسيّة بُعيد انفجار المرفأ، ووصفها أنّها «خانته» فى جهوده لإنقاذ لبنان من تفاقم الانهيار. بل إنّ فرنسا والولايات المتحدة ضغطت كى يُصدِر صندوق النقد الدوليّ «اتفاقا» بالأحرف الأولى حول المساعدات والإصلاح مع حكومةٍ تنتهى صلاحيّاتها خلال أيّام. وهو أمرٌ غير مسبوق فى آليّات عمل الصندوق. وبدا الأمر واضحا أنّه دعمٌ للسلطة القائمة كى... يُعاد انتخابها.
كذلك ابتعد المشهد الشعبيّ كثيرا عن طموحات «الثورة«، أى الانتفاضة الشعبيّة التى قامت فى تشرين الأوّل/أكتوبر 2019 مع بداية الانهيار المالى.. عناصر السلطة ذاتهم باتوا «ثوريين» و«تغيريين»، إلى درجة أنّ البعض من رموزها القديمة دفع بأبنائه للترشيح بدلا عنه (!). وبرز آخرون على الشاشات «من قوى الثورة» دون غيرهم، خاصّةً أولئك الذين غابت عنهم أيّة رؤية عن تحديات الانهيار معيشيّا وسياسيّا واجتماعيّا فى ظلّ استفزازٍ واسع للتناقضات المجتمعيّة الطائفيّة.
فماذا بعد نتائج الانتخابات؟ سيأتى مجلسٌ نيابيٌّ جديد، مع قلّة من الوجوه الجديدة وتعديلات طفيفة فى توازنات قوى السلطة الطائفيّة الستّ. وتعود المناكفات بينها كى تتمّ تسمية حكومة جديدة من ضمن «توافقاتها»، ما يأخذ أشهرًا طويلة فى التقليد السياسيّ اللبنانيّ. خاصّة أنّ الرهان القادم، وهو انتخاب رئيسٍ جديدٍ للجمهوريّة، قريب. كما ستتعطّل الدولة كمؤسّسة، المنخورة «أصلا» فى العمق بـ«المحاصصات»، عن القيام بإصلاحات لوقف الانهيار. إصلاحات كانت «أصلا» ملحّة منذ أكثر من خمس سنوات (!) وهى اليوم أشدّ إلحاحا.
• • •
القطاع المصرفيّ فى لبنان متوقّفٌ تقريبا عن العمل.. خرج منه نصف أصحاب الحسابات ولم تعُد أغلبيّة المواطنين تثق به. والمصارف جميعها متعثّرة من جرّاء الآليّة التى أدارها المصرف المركزيّ والتى ضخّمت ميزانيّاتها بتسجيل دولارات أمريكيّة وهميّة (تُسمّى اليوم «لولارات»)، فى حين تمّ هدر الدولارات الحقيقيّة. واستمرّ هذا الهدر حتّى بعد انفجار الأزمة فى 2019 مع أنّ المتبقّى من الدولارات الحقيقيّة كان يشكّل الرصيد الوحيد المُمكِن لإطلاق عمليّة إصلاح بترشيد إنفاقها.
والقطاع الإنتاجى فقد تنافسيّته رغم انهيار العملة المحليّة 18 ضعفا وثبات الأجور بقيمتها الأسميّة والاستخدام الكثيف للعمالة السوريّة الهشّة الرخيصة، لأنّ كلفة قطاع الطاقة أضحت ضخمة مع عدم الثبات فى تأمينها. ما يتطلّب سنوات لإصلاحه، كما لإعادة هيكلة القطاع المصرفيّ الضروريّة. هذا عدا عن هجرة الكفاءات والشركات إلى الخارج.
هكذا سيرسُمُ مرحلة ما بعد الانتخابات تناقضٌ رئيسيّ بين ضرورة الإسراع بإصلاحات فى اقتصادٍ بات يقوم فى معظمه على التعاملات النقديّة بالعملة الصعبة، ما يحمل مخاطر كبيرة، ويبقى عاجزا عن القيام بإصلاحات كبرى للانتعاش وبين وتيرة التوافقات بين قوى السلطة التى أعادت إنتاج «شرعيّتها».. بانتخابات، رغم مسئوليّتها عن الانهيار وفسادها المستشرى.
كلّ هذا ضمن تحوّلات كبرى فى اللعبة الإقليميّة والدوليّة منذ بداية الحرب فى أوكرانيا والحرب العالميّة الاقتصاديّة التى جاءت فى سياقها. تحوّلات تخصّ لبنان فيما يتعلّق مثلا بالصراع الغربى مع إيران، خاصّة لجهة حزب الله وإسرائيل. حيث ابتعدت إمكانية حدوث اتفاق حول النووى الإيرانى دون روسيا التى كانت هى الضامنة لتزويد إيران بالوقود بدل تخصيبه محليّا وهى التى تؤمّن استلام وقود النفايات الأشدّ خطرا. فكيف يتمّ إنتاج اتفاق نوويّ فى ظلّ صراعٍ محتدم يبدو طويل الأمد بين أمريكا وأوروبا من جهة وروسيا ومن يُمكن أن يدعمها من جهةٍ أخرى؟! وهناك كذلك التحوّلات الكبرى فى الموقف التركى، سواءً فى المصالحة اللافتة مع المملكة العربيّة السعوديّة أو فى التغيّرات فى التعامل مع المعارضة السوريّة، عبر تقليم أظافر تنظيم الإخوان المسلمين رويدا رويدا وعبر الضغط على اللاجئين لضبط تواجدهم و«لإعادتهم» إلى سوريا، أو فى التطبيع الذى أصبح الأمنيّ منه مُعلنا مع السلطة السوريّة.
• • •
لم تأخذ جميع الدول الإقليميّة النافذة موقفا حاسما إلى جانب أحد طرفى صراع أوكرانيا، رغم خلافاتها العميقة. ولم تلتزِم بالعقوبات على روسيا رغم الضغوط والتهديدات الأوروبيّة والأمريكيّة. وهذا لافت. فى حين برز موقفٌ للولايات المتحدة برفع العقوبات الاقتصاديّة على سوريا فى مناطق الشمال الشرقى (الخاضعة للقوّات ذات الأغلبيّة الكرديّة) والشمال الغربيّ (الخاضعة للنفوذ التركى المباشر) على السواء، وكذلك تشجيع الاستثمار – الغربى بالمناسبة ــ فيها. خطوة لا يُمكن فهم أبعادها من الناحية الاقتصاديّة وحدها. إذ تستطيع المناطق المذكورة التعامل تجاريّا وماليّا وسياسيّا مع الغرب منذ زمنٍ طويل. وحدها تركيا هى التى تمنع وصول بعض الأشياء، خاصّة عن الشمال الشرقى. يهمّ هذا لبنان فى أنّه يشكّل مزيدا من الإغلاق على المناطق التى تسيطر عليها السلطة السوريّة، فى الوقت الذى بات واضحا اليوم للجميع أن لا نهضة اقتصاديّة فى لبنان دون نهضة اقتصاديّة فى سوريا، والعكس بالعكس.
فهل تتّوجه الولايات المتحدة نحو تقسيم سوريا، بل، ربمّا، إعادة صياغة الحدود وترتيب المنطقة، فى الوقت الذى تعيد فيه «ترتيب» أوروبا بشكلٍ غير مسبوق منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية.
فى هذه الأوضاع المقلقة، يكمُن بصيص الأمل الكبير فى نشوء جيلٍ من الشابات والشباب، لبنانيون وسوريّون وغيرهم يعون عبر التجربة أنّ قضايا بلادهم أبعد من منظومة الحكم ولحظة انتخابات، بل فى انخراطهنّ وانخراطهم فى العمل السياسيّ من أجل برنامجٍ لإحياء الدولة كمؤسّسة ضامنة وحامية للمجتمع من قوى تسلّط داخليّة وألاعيب خارجيّة. مشهد اللبنانيين بينهم يخوضون الانتخابات الحاليّة كمحطّة نضال وتواصل مع المجتمع يثير التفاؤل والثقة.