يتفق جمهور علماء النفس، والاجتماع، والسياسة، على أن ممارسة النقد الذاتى، تعد حجرالزاوية فى بنيان نهضة المجتمعات وتقدم الأمم. ويؤكد، غولان شاهار، أستاذ الصحة النفسية وعلم النفس التنموى، ومؤلف كتاب: «تآكل..علم نفس النقد الذاتى»، أن ما يميز المجتمعات الحية القادرة على تجديد نفسها والتقدم للأمام؛ هو اتساع صدور أنظمتها الحاكمة للنقد الذاتى، باعتباره الوسيلة الأنجع لاكتشاف جوانب القصور، والحافز الأمثل لبلوغ مستقبل مزدهر.
تكمن أبرز عوامل نجاح تجربة العصرنة الغربية، فى إفساحها المجال للنقد الذاتى، ووضعه فى صدارة أولويات منظومتها الثقافية والحضارية. وفى هذا المضمار، تشكل «مدرسة فرانكفورت» النقدية، علامة فارقة فى نقد الحداثة الغربية، وتفكيك مصفوفاتها الفلسفية والفكرية. ففى عام 1923، أسسها أستاذ القانون الألمانى، كارل جرونبرج، ضمن سياق تاريخى وثقافى وسياسى مأزوم. إذ تأثرت نشأتها بظهور الفاشية والنازية، ثم تطور الشيوعية، بعد اعتلاء، ستالين، السلطة فى الاتحاد السوفيتى. كما عاصرت انقسامات اليسار، وإخفاق الكثير من تجاربه فى أوروبا، وصعود الرأسمالية وأزماتها. ومن ثم، انبرى رواد المدرسة فى التعاطى مع شواغل عشرينيات القرن الماضى؛ كمثل: الخوف من الحرية، والجدل القمعى للحضارة، وإنسان البعد الواحد. حيث تبنوا اتجاها نقديا يتجاوز الطروحات الكانطية، التى ساهمت فى تأسيس العقلانية الغربية؛ كما يتخطى الأفكارالماركسية، التى تجاهلت البعد الإنسانى.
برغم ولادتها المتعسرة، اكتست «مدرسة فرانكفورت» طابعا نقديا، للأسس التى قامت عليها الحضارة الغربية؛ كالحرية، والعقلانية، والتقدم العلمى والتقنى. وطيلة قرن من الزمن، اتخذت من التغيير الاجتماعى هدفا، ومن النقد الجذرى منهجا؛ وصاغت لكل حقبة زمنية آلياتها، ومناهجها، وسماتها المميزة. إذ كرست جهودها لنقد المجتمع الغربى الحديث؛ بغية تعرية تناقضاته. وانخرطت فى عملية نقدية شاملة للحضارة الغربية؛ بقصد إعادة النظر فى دعائمها ومنجزاتها. وذلك على ضوء التحولات السياسية الكبرى، التى أفرزتها الحداثة الغربية، منذ عصر الأنوار. كما رصدت الأعراض المرضية، التى ألمت بالمجتمعات الغربية المعاصرة. وبعد انتقالهم إلى الولايات المتحدة، عام 1934، انخرط أساطين المدرسة، فى تحليل ونقد المجتمع الرأسمالى.
أماط رواد المدرسة الأوائل، اللثام عن مظاهر الاستغلال والاغتراب التى أفرزها مشروع التنوير، نتيجة هيمنة العقلانية الأداتية. وانتقدوا ابتعاد الفلسفة عن دورها الاجتماعى. وأدانوا تهافت النزعة الوضعية، التى جعلت من العلوم الطبيعية نموذجا للعلمية، ومن العلم والتقنية الأداتين الكفيلتين بإحداث التغيير الاجتماعى، وإنتاج سعادة الإنسان. كذلك، انتقدت المدرسة تحول أدوات التثقيف ووسائل الإعلام، إلى أدوات تمارسها السلطة بغرض السيطرة.
بفضل تنوع الخلفيات المعرفية لكوادرها، ما بين علوم الاجتماع، والفلسفة، والعلم التجريبى، أحيت، مدرسة فرانكفورت، الحس النقدى، باعتباره مدخلا مهما للإحساس بالحرية والاستنارة، وضرورة ملحة لإنجاح عمليات التغيير ومسيرات التقدم. فبمقاربة واقعية حصيفة، ربط الفيلسوف، وعالم الاجتماع الألمانى المعاصر، يورغن هابرماس، الذى يعد أحد أهم منظرى «مدرسة فرانكفورت النقدية»، مشروعه الفلسفى، بمصير ألمانيا، فى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. فحرص على الانخراط الدائم فى المناقشات العمومية، التى شهدتها بلاده وأوروبا عقب تلك الحرب، والتى لم يكن شىء خلالها معفيا من السؤال، أو منزها عن النقد والمراجعة. فيما كانت كل الموضوعات تكتسب شرعيتها من خلال المناقشات العمومية، التى تتيح الوصول إلى الحقيقة الإجماعية. الأمر الذى شجع وزير الخارجية الألمانى الأسبق، يوشكا فيشر، على تسمية، هابرماس، «فيلسوف الجمهورية الألمانية الجديدة».
لا ترى طائفة من المفكرين، فى ممارسة النقد الذاتى، تقليدا عربيا. إذ نادرا ما يعترف العرب، سواء كانوا من النخبة أم الجمهور، بأخطائهم. لكن على المستوى المعرفى، يجوز الادعاء أن النقد الذاتى، قد شغل حيزا واسعا من الأدبيات العربية؛ منذ بدايات العصر الحديث؛ على نحو ما تجلى فى كتابات، طه حسين، وآخرين. غير أن المراقب يستطيع أن يلمس محاولات جنينية خجولة للنقد الذاتى العربى، تنبلج من سؤال النهضة التاريخى، الذى طرحه المفكر اللبنانى، شكيب أرسلان: «لماذا تأخَّر المسلمون، ولماذا تقدَّم غيرهم؟!»، والذى اختاره عنوانا لكتابه الوجيز، الصادر سنة 1930.
يبقى الفيلسوف الجزائرى، مالك بن نبى، رائدا لمنهج «النقد ما بعد الاستعمارى»، الذى يراه خطوة أساسية للنهوض. حيث وجه سهام نقده لمشروع التحديث وتمثلاته فى الوعى العربى والإسلامى. وذلك من خلال مفهوم «القابلية للاستعمار»، الذى أورده فى كتابه المعنون: «الصراع الفكرى فى البلاد المستعمرة»، الصادرة طبعته الأولى عام 1960. فمن خلاله اعتبر المفهوم «لونا من ألوان الخضوع للمستعمر، الذى ينجح فى إشعار الأمة المستَعمَرَة بتفوقه عليها، وعدم قدرتها على إدارة شئون حياتها من دونه، كما يكرس دونيتها فى كل شىء». ويرجع، بن نبى، «التخلف الذى أصاب أمتنا إلى تفشى روح الفردية، وهيمنة «نظرية الجزء»؛ حيث قامت الدويلات، واستعر الاقتتال، ليحل السقوط ويسود الانحطاط». وفى مؤلفه الماتع: «شروط النهضة»، الصادر عام 1979، انتقد بن نبى المجتمع الجزائرى وصفوته، التى مالت إلى المستعمر الفرنسى، واندمجت فى النظام السياسى، الذى صممه وهندسه. وفى مقالات موجزة، سطرها بالفرنسية، دوَن ملاحظاته الناقدة للتداعيات السلبية لذلك الاندماج على الشعب الجزائرى. غير أن خللا معرفيا وحضاريا، قد اعترى أطروحات، بن نبى، ليحول دون تأطيرها فكريا، فى صورة فلسفات متماسكة، ذات معالم واضحة. كما أعاق بلورتها فى نظريات ومفاهيم تختط تيارا، يمكن الاهتداء به فى دراسة العلاقات المعقدة مع الآخر الحضارى.
يروق للمفكر المصرى الراحل، السيّد ياسين، التأريخ لإرهاصات النقد الذاتى العربى، بالتعاطى المعرفى مع الهزيمة المدوية فى حرب فلسطين عام 1948. ويستشهد بكتاب المؤرّخ والمفكرالقومى، قسطنطين زريق، الذى يحمل عنوان:«معنى النكبة». فيما يرى أن كتاب المفكر السورى، صادق العظم، الصادر عام 1968، بعنوان: «النقد الذاتى بعد الهزيمة»، إنما يمثل البداية الحقيقية للنقد الذاتى العربى الممنهج بعد الهزيمة المفجعة عام 1967. حيث كان أول منتج فكرى يتناول، صراحة أسباب الهزيمة من شتى جوانبها. وقد أعقبته عدة مؤلفات فى تفسير الهزيمة، لمفكرين ينتمون إلى تيارات إيديولوجيّة مختلفة. كان من أبرزها: «النكسة والخطأ»، لأديب نصّور، و«أعمدة النكبة السبعة»، لصلاح الدّين المنجد.
هذا علاوة على إبداعات أدبية وفنية أخرى، مثل: قصيدة، نزار قبانى، «هوامش على دفتر النكسة»، ومسرحية، سعد الله ونوس، «حفلة سمر من أجل الخامس من حزيران».
وكذا رواية، صنع الله إبراهيم، «67»، والتى لم تنشر إلا عام 2017.
تبدو أمتنا اليوم فى مسيس الحاجة إلى تقبل النقد الذاتى الجاد، على مستوى الأفراد، والمؤسسات، والمجتمع قاطبة. بيد أن نجاعة هكذا توجه، تتطلب توافر انتلجنسيا وطنية، على شاكلة «مدرسة فرانكفورت النقدية»، بحيث تأخذ على عاتقها مراجعة المسيرة، بكل ما تنطوى عليه من أفكار وسياسات، بمنتهى الشفافية والموضوعية. كما تستوجب خطابا إعلاميا بناءً، ونظاما تعليميا خلاقا، بما يسهم فى بناء العقلية النقدية وتعزيز التفكير النقدى. وحتى يؤتى النقد الذاتى أكله، يتعين ألا يُختزل فى هَبَة ضميرية لحظية، أو نزعة عاطفية عابرة. بقدر ما يكون شاملا، ومعمقا، وممأسسا، ومؤطرا بالسياقات القانونية والدستورية، التى تضمن ترجمة مخرجاته، إلى إجراءات، وتشريعات، وسياسات واقعية، دونما مماطلة أو إبطاء.
منذ يوليو 1962، وبعد إخفاق تجربة الوحدة المصرية ــ السورية عام 1961، شرع الرئيس الراحل، جمال عبدالناصر، الذى كان «عظيم المجد والأخطاء»، على حد وصف الشاعر العراقى الفحل، محمد الجواهرى؛ فى مراجعة تجربته. وعلى إثرها، أنشأ مجلسا للرئاسة، يضم سبعة من أعضاء مجلس قيادة الثورة، وتنازل له عن اختصاصات رئيس الجمهورية، تطبيقا لفكرة القيادة الجماعية. وفى عامى 1964، و1965، وبعد تشريح مفصل لعهده، اعترف بأن «الوضع الداخلى مخيف». وفى أغسطس 1967، أقر بإخفاق نظامه السياسى، وطالب بآخر بديل أكثر انفتاحا، بحيث يتسع لمعارضة حقيقية، ويفسح المجال للحريات. لكن، ومع بالغ الأسف؛ لم يتعد الأمر كونه مجرد ردات فعل آنية، جراء شعور عارض بالذنب؛ ومحض دعاية سياسية لامتصاص الغضب الشعبى العارم. إذ لم تتمخض المراجعة الانفعالية عن تدابير جادة، تقود إلى إصلاح حقيقى، أو تغيير إيجابى ملموس.