نجح هنرى كيسنجر فى مد جسور العلاقات الدبلوماسية مع الصين بعد قطيعة استمرت لعقود مستخدما ما أطلق عليه «دبلوماسية البينج بونج»، وصولا لزيارة تاريخية قام بها الرئيس ريتشارد نيكسون لدولة لم يجمعها بأمريكا إلا كراهية الاتحاد السوفيتى. إلا أن كيسنجر لم يسعد لربطه برياضة البينج بونج، حيث إنه عاشق لكرة القدم. وكان كيسنجر يكرر أنه يفهم فى شيئين؛ الاستراتيجية الدولية وكرة القدم.
كما أدرك كيسنجر، وزير الخارجية ومستشار الأمن القومى السابق، والذى احتفل بعيد ميلاده المئوى الشهر الماضى، أهمية الرياضة فى العلاقات الدولية مبكرا وسعى لوضع بلاده على خريطة كرة القدم العالمية.
وبسبب أصوله الألمانية، وكونه مشجعا أصيلا لفريق Greuther Fürth الألمانى فى مسقط رأسه، عشق كيسنجر الكرة منذ طفولته. وعلى الرغم من أن الفريق الذى كان يحلم بالانضمام إليه تشكل من الهواة المحليين، إلا أنه فاز بشكل غير مفهوم بالبطولة الألمانية ثلاث مرات خلال طفولة كيسنجر.
انزعج كيسنجر مبكراــ منذ وصوله قبل الحرب العالمية الثانية لاجئا للولايات المتحدة ــ من أن الشعب الأمريكى لا يطلق على رياضة «كرة القدم» كرة القدم (Football) كما تسمى فى سائر أنحاء العالم، بل هى «سوكر» (Soccer).
ورغم صعود الولايات المتحدة إلى نهائيات كأس العالم 11 مرة، ووصولها إلى الدور قبل النهائى عام 1930، ودور الثمانية فى مونديال 2002 بكوريا الجنوبية واليابان، إلا أن كرة القدم فى الولايات المتحدة لا تتمتع بنفس ما تتمتع به رياضيات أخرى مثل كرة السلة وكرة القدم الأمريكية أو البيسبول، من شعبية. ومن هنا قرر كيسنجر القيام بكل ما يستطيع لرفع شعبية اللعبة فى أمريكا.
حضر كيسنجر عدة مباريات تاريخية منها نهائى كأس العالم أعوام 1970، و1994. وكان كيسنجر يُسبب الكثير من التوتر لمساعديه بسبب رغبته فى تنظيم جدول مواعيده بحيث لا تتعارض مشاهدته لمباريات كأس العالم مع جدول مقابلاته والتزاماته المهنية قدر المستطاع.
• • •
بعد اعتزال بيليه لعب الكرة مع منتخب بلاده البرازيل بعد الفوز التاريخى على إيطاليا فى نهائى كأس العالم 1970 وتخطيه الثلاثين من العمر، انهالت عروض الاحتراف على الجوهرة السوداء من أندية فى إسبانيا وإيطاليا، إلا أنه رغب فى الاستمرار مع فريقه البرازيلى المفضل سانتوس.
وفى بداية عام 1974، سافر كيسنجر إلى ساو باولو وطلب أن يقابل بيليه للحديث سويا فى أحد المقاهى، وخلال اللقاء أقنع كيسنجر بيليه بأهمية القدوم والاحتراف فى نادى كوزموس نيويورك، وقال إن هذه الخطوة المبدئية تعنى تغيير خريطة الكرة العالمية وغرس بذرتها فى الولايات المتحدة.
أبرز كيسنجر دور بيليه المتوقع فى إخراج كرة القدم من المدارس الثانوية الأمريكية لتكون أحد الرياضات الهامة فى الجامعات، وتأسيس دورى للمحترفين. وقال كيسنجر «اسمع، أنت تعرفنى كسياسى، لكنى كعاشق لكرة القدم أريد مساعدتك فى الترويج لكرة القدم فى الولايات المتحدة». ووافق بيليه على الفكرة معتقدا أنه سيمضى عاما واحدا هناك، إلا أنه لعب لفريق كوزموس لثلاثة أعوام بصحبة نجوم الكرة العالمية آنذاك مثل فرانز بيكنباور، ويوهان كرويف.
توقع كيسنجر أن يكون وجود هؤلاء اللاعبين كافيا لتغيير شكل كرة القدم داخل أمريكا، وهو ما لم يكن، وفشلت المحاولة الأولى.
• • •
ثم عاد كيسنجر لكرة القدم متزعما جهود الولايات المتحدة للحصول على حق استضافة كأس العالم عام 1994، ونجحت بلاده فى مسعاها لأسباب كثيرة، منها شبكة علاقات كيسنجر الواسعة، رغم حداثة عهد أمريكا بكرة القدم.
بعد نجاح معجزة كرة القدم دييجو مارادونا فى الفوز بكأس العالم عام 1986، وخسارته المباراة النهائية عام 1990، أصبح مارادونا هدفا لكيسنجر كى يستخدمه لتطوير كرة القدم داخل الولايات المتحدة، ورفع شعبيتها قبل استضافة مونديال 1994. وسبّب جهل أغلبية الشعب الأمريكى بنجوم الكرة حول العالم فى تلك الفترة مثل باجيو الإيطالى، أو هاجى الرومانى أو فالديراما الكولومبى، قلقا كبيرا لكيسنجر.
إلا أن الأغلبية تعرفوا على مارادونا أثناء وعقب مونديال 1986، كما تعرف الشعب الأمريكى على مارادونا بسبب هدفيه فى إنجلترا، سجل مارادونا الهدف الأول بيديه دون أن يلاحظ الحكم ذلك، ثم سجل هدفه الاستثنائى فى مرمى إنجلترا، وهو الهدف الذى اعتبرته الفيفا كأعظم هدف فى تاريخ كأس العالم حين استلم مارادونا الكرة فى نصف ملعبه، وجرى بالكرة ولمسها 11 مرة مرورا بأكثر من نصف الملعب مراوغا لخمسة لاعبين إنجليزيين، قبل أن يخدع حارس المرمى بيتر شيلتون ويضع الكرة داخل المرمى.
لكن لم تنجح جهود كيسنجر فى جذب مارادونا للعب فى الولايات المتحدة قبل المونديال، وقرر الانتظار لما بعد انتهاء البطولة، إلا أن مارادونا كان له رأى آخر. لعب مارادونا مباراتين فقط ضد اليونان ونيجيريا، وعقب مباراة نيجيريا، التى كانت الأخيرة دوليا له، خضع مارادونا لاختبار المنشطات، حيث ثبُت تعاطيه منشطات محظورة، وتم إيقافه من الفيفا، ثم عاد مارادونا لبلاده الأرجنتين ليختتم مسيرته الكروية هناك كلاعب مع فريق بوكا جونيور حتى عام 1997.
هكذا فشلت أحلام كيسنجر فى جذب مارادونا للدورى الأمريكى الصاعد قبل استضافة بلاده لكأس العالم عام 1994، أو بعدها بعد فضيحة المنشطات.
• • •
مع فوز الولايات المتحدة بتنظيم مونديال 2026، بمشاركة محدودة مع المكسيك وكندا، وهى البطولة الأولى التى تضم 48 فريقا عوضا عن 32، يعمل اتحاد الكرة الأمريكى كل ما فى وسعه من أجل إنجاح البطولة داخل الولايات المتحدة، ونشر اللعبة ورفع شعبيتها فى مختلف الولايات. ومن هنا يمثل ضم فريق إنتر ميامى لأيقونة الكرة العالمى المعاصر، ليونيل ميسى، خبرا مثيرا لكيسنجر، إذ إنها فرصة أخرى نادرة لتغيير خريطة اللعبة داخل أمريكا. وميسى، الذى فاز بالكرة الذهبية كأفضل لاعب فى العالم لسبع مرات، ورفع كأس العالم قبل شهور فى الدوحة بعد نهائى مثير ضد فرنسا لم تحسمه إلا ضربات الجزاء، اختار القدوم إلى ولاية فلوريدا بعد منافسة سعودية إسبانية على ضمه. ويمثل اختيار ميسى ليختم حياته الكروية بأمريكا تحديا له ولمستقبل شعبية اللعبة فى الولايات المتحدة.
لا نعرف إذا ما كان كسينجر سيحيا ليشارك فى افتتاح مونديال 2026، ولكن سنعرف هل سينجح ميسى فى ترجمة أحلام كيسنجر الكروية إلى واقع فى مجتمع لا يعرف الحب الجامح لكرة القدم مثل مختلف دول العالم، مقابل غرام وإدمان شعبى لرياضات لا شعبية ضخمة لها خارج الحدود الأمريكية.