يعد الحزب الجمهورى من أهم وأعرق الأحزاب حول العالم، منذ تأسيسه عام 1854 نتيجة انشقاق البعض عن الحزبين الرئيسيين فى ذلك الوقت، الحزب اليمينى والحزب الديمقراطى، نتيجة اعتراضهم على استمرار نظام الرق والعبودية القائمة آنذاك، ورغبتهم فى الحفاظ على الاتحاد الأمريكى فى وجه نداءات الانفصال خاصة من ولايات الجنوب. وكانت سياسة تحرير العبيد السود هى حجر الأساس للحزب الجديد، ودفعت أمريكا ثمنا باهظا لرغبة الديمقراطيين فى الاحتفاظ بسياسات الرق والعبودية وهو ما أدى لاندلاع حرب أهلية استمرت لخمس لسنوات وراح ضحيتها 620 ألف ضحية. واليوم يمثل الحزب على بطاقة الترشح لمنصب الرئيس الأمريكى.. دونالد ترامب!
يضم الحزب منذ ستينيات القرن الماضى، تيارات فكرية متنوعة ــ صاحبت إقرار قوانين الحقوق المدنية التى منحت حقوقا مساوية للسود ــ أهمها المحافظين الاقتصاديين (فيما يتعلق بالضرائب وقطاع الأعمال) والمحافظين الاجتماعيين (ممن يقفون وبشدة مع شكل العائلة التقليدى) والمحافظين الجدد (ممن لا يمانعون استخدام القوة والحروب الخارجية)، ويضم كذلك المعادين لدور متضخم للحكومة الفيدرالية. وتاريخيا تبنى الحزب الجمهورى أفكارا وقيما تقليدية محافظة سواء الاجتماعى منها أو ما يتعلق بالسياسات الاقتصادية، فى الوقت الذى تبنى فيه سياسة خارجية تدعم التدخل الأمريكى فى الشئون العالمية ولا تمانع من استخدام القوة والسلاح لخدمة المصالح الأمريكية.
***
على العكس من قيادات وتوجهات الحزب الجمهورى، عارض ترامب حرب العراق 2003، والمستمرة حتى اليوم، وذلك على الرغم من أنها نتاج أفكار المحافظين الجدد، التيار الرئيسى بالحزب اليوم. وينتقد ترامب فى كل مناسبة سجل هيلارى كلينتون؛ وهو السجل الأقرب لسياسة وقيم وأفكار الحزب الجمهورى عنها لقيم الحزب الديمقراطى؛ عندما يتعلق الأمر بدعمها للحروب الأمريكية فى أفغانستان أو العراق أو ليبيا أو حتى الغارات على صربيا أثناء رئاسة زوجها بيل كلينتون فى تسعينيات القرن الماضى. وعلى العكس من التراث الجمهورى الداعم للتحالفات العسكرية للولايات المتحدة، وعلى رأسها حلف شمال الأطلنطى (الناتو)، يرى ترامب عدم وجود ضرورة لبقاء الناتو ويعتقد أنه يستنزف الموارد المالية والبشرية والعسكرية لأمريكا ولا يخدم إلا مصلحة الدول الضعيفة بين الأعضاء. كما يعارض ترامب نهج الحزب، ويدعو دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية للاستقلال العسكرى عن الولايات المتحدة، ونادى بضرورة أن تمتلك هذه الدول أسلحة نووية.
ويعارض ترامب وبقوة اتفاقيات التجارة الحرة التى هى عماد التجارة الدولية وذلك على العكس مما يؤمن به ويدعمه الحزب الجمهورى. يتعهد ترامب بإعادة التفاوض حول اتفاقية «نافتا» منطقة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية وتضم الولايات المتحدة وكندا والمكسيك. ويعارض كذلك اتفاقية منطقة آسيان، الشراكة التجارية لمنطقة المحيط الهادى، والتى تضم إضافة للولايات المتحدة اقتصاديات شرق وجنوب آسيا الصاعدة والتقليدية. ولطالما آمن الحزب الجمهورى بفلسفة الأسواق الحرة وحرية انتقال رءوس الأموال والشركات كعوامل ضرورية لدفع الازدهار الاقتصادى، بينما يطالب ترامب بفرض سياسات حمائية لخدمة العامل والمنتج الأمريكى، ويتعهد بفرض تعرفة جمركية، وضرائب على المنتجات الواردة من الصين وغيرها من الشركاء التجاريين لأمريكا.
***
فى الوقت الذى يمثل المحافظون الاجتماعيون المتدينون حجر الأساس وسط الفئات المؤيدة للحزب الجمهورى، تمثل شخصية دونالد ترامب النقيض تماما للصورة الذهنية لرجل الدولة عند هؤلاء الناخبين. يعيش ترامب حياة صاخبة أقرب لحياة نجوم هوليوود فى ستينيات وسبعينيات القرن الماضى، تزوج ترامب ثلاث مرات، ولم ينكر ترامب، بل يتباهى باحتفاظه الدائم بعلاقات جنسية متنوعة خارج إطار الأسرة. ولا يذهب ترامب للكنائس، ولا يعرف عنه ممارسة أى مظاهر للتدين بل هو دائم الكذب ويغير رأيه بخصوص الكثير من القضايا. ويعرف الناخبون ذلك.. ويقبلون به.
من أبرز الرؤساء الجمهوريين ممن شكلوا فلسفة وهوية الحزب يمكن أن أشير إلى ثلاثة يمثلون النقيض التام لترامب. أبراهام لينكولن، الذى يعرف بمحرر العبيد، هذا فى الوقت الذى تبلغ فيه شعبية ترامب بين السود 2% فقط، ويتبنى هو خطابا عنصريا إقصائيا بامتياز. تيودور روزفلت، الذى كان مثقفا وجنديا ودبلوماسيا ومحافظا على البيئة، بينما ترامب يعرف بإنكاره للاحتباس الحرارى، ولا يعرف عنه نهمه بالقراءة على الإطلاق. والرئيس الثالث رونالد ريجان الذى كان له دور بارز فى إنهاء الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتى، فى الوقت الذى لا ينكر فيه ترامب ولعه بطريقة حكم الرئيس الروسى فيلاديمير بوتين، وبقيادته الحكيمة للفاشية الروسية البوليسية.
***
لا يتوقف أعضاء بارزون فى الحزب الجمهورى عن الهجوم على دونالد ترامب، فى الوقت الذى يعلن فيه ترامب أنه «موحد الجمهوريين». وعلى سبيل المثال يرى خمسون مسئولا جمهوريا سابقا، ممن تولوا على مدى عقود مناصب مهمة فى منظومة الأمن القومى الأمريكى، أن المرشح ترامب لا يصلح للرئاسة بسبب «جهله» و«عدم كفاءته»، محذرين من إنه إذا انتخب سيكون «أخطر رئيس فى التاريخ الأمريكى»، فى وقت يعتقد ترامب أنه المنقذ للحزب الجمهورى.
منذ صعود نجم ترامب السياسى واغتنامه بطاقة ترشح الحزب الجمهورى، ظهر حجم الانقسامات داخل دوائر الحزب الجمهورى، وصلت لدرجة أن العائلة الجمهورية الأشهر، «عائلة بوش»، امتنعت عن دعم مرشح الحزب الجمهورى فى السباق الرئاسى. دخل ترامب سباق الرئاسة ساعيا للتسلية والترفيه، وساهمت عوامل مختلفة فى صعوده الصاروخى، فى وقت لم يكن يحلم هو شخصيا بوصوله لهذه النقطة من السباق. لا يملك ترامب خطط عمل واستراتيجيات والتزامات، فقط يملك عوامل إثارة تغطى على غياب الموضوعية السياسية. قد يخسر ترامب الانتخابات فى 8 نوفمبر القادم، لكن من المؤكد أن الضحية هو الحزب الجمهورى.. دونالد ترامب لم يُهزم، ترامب فاز بما يريد حتى مع وصول هيلارى كلينتون للبيت الأبيض.