رصد تقرير صدر حديثا عن مؤسسة بيتشبووك PitchBook للبيانات المالية ترتيب أكثر 50 جامعة على مستوى العالم من حيث المساهمة خلال العقد الأخير فى تأسيس العدد الأكبر من الشركات الناشئة Startups، والمدعومة من صناديق مالية استثمارية Venture capital firms على مستوى العالم.
تضم القائمة 41 جامعة أمريكية من أصل 50، وتوزعت الجامعات التسعة الباقية بين دول إسرائيل وكندا والصين، وينتظر حدوث تغير كبير فى شكل وترتيب القائمة بحيث تتضاعف فيه أعداد الجامعات الصينية خلال السنوات القادمة.
وتلعب الجامعات الأمريكية دورا يتخطى تلقين الطلاب أحدث ما توصل إليه العلم فى مختلف المجالات، فهذا نمط تقليدى قديم لا يناسب بالضرورة احتياجات ومنافسة العصر.
وتقوم الجامعات كتلك التى ذُكرت فى القائمة وتتصدرها ستانفورد وبيركلى ومعهد ماساشوستس للتكنولوجيا وكارنيجى ميلون وكورنبل وهارفارد وغيرها، بتوفير بيئة مشجعة لتبنى أفكار طلابها لبدء تأسيس شركات ناشئة، وتقديم تمويل يتناسب مع طموح أفكار تلك الشركات، وفى حالات كثيرة تصبح الشركات الناشئة الجديدة عماد صناعات رقمية حديثة تغير الواقع من حولنا كما كان الحال مع شركة أوبر لخدمة السيارات أو شركات الهندسة الطبية.
***
يعد هذا الجانب من أكثر جوانب التجربة الأمريكية، المستمرة منذ نشأة الجمهورية قبل 240 عاما، إشراقا ونجاحا يميزها عن غيرها من التجارب المجتمعية من حولنا.
ويميز التجربة الأمريكية فى أحد جوانبها، والذى ينبع من فلسفة تقاسم السلطات ورقابتها على بعضها البعض، عدم تأثر مراكز الدولة الأمريكية الصلبة، بما تشهده العاصمة واشنطن من جمود واستقطاب سياسى غير مسبوق.
لم تتأثر ريادة الجامعات الأمريكية لحركة البحث والتطوير، منذ نهايات الحرب العالمية الثانية فى مختلف المجالات العلمية، بهوية ساكن البيت الأبيض أو بانخراط الولايات المتحدة فى مغامرات خارجية عسكرية غالبا تنتهى بالفشل.
مراكز القوة الصلبة المنتشرة فى مختلف أرجاء الولايات المتحدة تعمل بجد وحماس ولا يعنيها كثيرا صراعات السياسة وفسادها الطاغى على العاصمة واشنطن والذى أخذ أبعادا دراماتيكية حادة مع وصول دونالد ترامب للحكم قبل أربع سنوات.
المركز المالى بمدينة نيويورك والمراكز الأكاديمية بمدينة بوسطن، والمراكز الطبية الأهم فى كليفلاند ومينيسوتا وهيوستن، ومراكز التكنولوجيا فى وادى السيليكون وسياتيل ومركز التسلية فى فيجاس أو مركز الإبداع البصرى فى لوس أنجلوس.. كلها تعمل بلا توقف ولا يعنيها فوز ترامب أو خسارة بايدن.
وعلى الرغم ما أصاب الولايات المتحدة من ضربة فيروس كورونا غير المتوقعة، والتى كشفت عمق فجوة توزيع الثروة وعمق مشكلة الرعاية الصحية وتبعات العولمة الاقتصادية وازدراء الصناعة التقليدية على حساب اقتصاد رقمى خدمى يعتمد على الإبداع والتصنيع فى الخارج، ينتظر العالم أن تخرج المعامل الأمريكية بلقاح أو مصل (فعال وآمن) للتغلب على فيروس كورونا.
***
وعلى الرغم من تمتع الولايات المتحدة بمؤسسات سياسية راسخة، إلا أنها جامدة غير متغيرة ولم تأخذ فى الحسبان التغيرات الواسعة التى يشهدها المجتمع الأمريكى. مؤسسات مثل المجتمع الانتخابى، وهو المؤسسة التى سمحت بوصول دونالد ترامب لسدة الحكم رغم تفوق هيلارى كلينتون بما يقرب من ثلاثة ملايين صوت عليه، أو مؤسسة مجلس الشيوخ الذى يساوى بين ولاية مثل كاليفورنيا ذات الأربعين مليون نسمة، وصاحبة الناتج القومى الإجمالى البالغ 2.7 تريليون دولار العام الماضى، بولاية مثل ويومنج التى لا يقطن بها إلا نصف مليون نسمة، وناتجها القومى الإجمالى لا يتعدى 40 مليار دولار. وهذا يمنع أقاليم أمريكا الساحلية الليبرالية، والأكثر كثافة سكانيا وأكثر تقدما تكنولوجيا من لعب دور أكبر فى منظومة الحكم. ومؤسسة المحكمة العليا التى نشهد الآن أحد فصولها بتعيين قاضية محافظة لتخل بتوازن المحكمة التاريخى وهو ما يسمح بإلغاء قرارات قضائية تاريخية تتعلق بحق الإجهاض أو الرعاية الصحية أو زواج المثليين وحق حمل السلاح.
ويصاحب ذلك كله تدهورا حادا فى أداء ودور الأحزاب السياسية بصورة غير مسبوقة أدت ليتنافس رجلين فى السبعينات من العمر على رئاسة دولة شابة لا يتخطى متوسط العمر فيها 39 عاما.
نعم تحتاج أمريكا إلى من ينقذها، لكن ليس من ترامب بل من جماعات اللوبى التى تمتلك قوة ونفوذا على صنع القرار السياسى الأمريكى. ويكفى أن نعرف أنه تم إنفاق أكثر من 4 مليارات دولار على جيش من اللوبى بلغ عددهم 14 ألف شخص يعملون فى واشنطن فقط، من أجل التأثير السياسى. لذا ليس من المستغرب أن تبلغ نسبة ثقة الشعب الأمريكى فى مؤسسة الكونجرس أقل من 20% فى حين يوافق فقط 41% من الأمريكيين على الطريقة التى يدير بها ترامب حكمه.
***
شهدت تجربة الولايات المتحدة مسيرة متعرجة منذ تأسيسها، وشهدت الكثير من لحظات الهبوط والكثير من نقاط الانطلاق. عرفت العبودية فى أسوأ صورها ودمرت حضارة سكان أمريكا الأصليين، إلا أنها فى حركة مستمرة للتحسين والتطور والنظر للأمام.
وتعتقد المدرسة الفكرية الأمريكية أن أمريكا الفكرة والحدوتة، عظيمة بطبيعتها. وهذا ما أشارت إليه وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلارى كلينتون فى كلمة لها أمام مجلس العلاقات الخارجية قبل سنوات، قالت فيها «إن العالم ينتظر من الولايات المتحدة أن تقود العالم وأن تحل مشكلاته، لذا فعليها أن تمهد الطريق لقيادة العالم فى العقود المقبلة». وأكدت ممثلة للمدرسة الفكرية الأمريكية أن حل مشكلات العالم يتطلب مؤهلات وإمكانيات ودور «تستطيع أمريكا فقط أن تقوم به».
ويمكن للمتابع للشأن الأمريكى أن يحلل سلوكيات الولايات المتحدة، ويراها رمزا لقوى الشر المطلق، وقوة عظمى على شفا الانهيار، إلا أنه يمكن أيضا أن يراها كأمة عظيمة وتجربة مستمرة تفعل الصواب، أو كما قال وينستون تشرشل رئيس الوزراء البريطانى السابق؛
«يمكنك دائما الاعتماد على الأمريكيين لفعل الصواب، ولكن بعد أن يكونوا قد جربوا كل الطرق الأخرى».