هكذا حسم الدكتور مفيد شهاب الأمر.. فقال «إنه يستبعد أن يكون العالم المصرى محمد البرادعى يفكر فى الترشيح بجدية لهذا المنصب الكبير.. وإن كان يفكر فهو مخطئ».
لقد تأملت هذا الكلام وتذكرت كتابات الأديب البريطانى الكبير جورج أورويل حول النظم الشمولية التى تعاقب على جرائم التفكير.. ففى كتابه الشهير المسمى «1984»، كانت هناك جريمة تسمى جريمة التفكير التى يستدل عليها بجريمة تعبير الوجه، فإذا كنت تحمل ابتسامة ساخرة مثلا أثناء إلقاء «الزعيم» لخطابه «التاريخى» فهذا يدل على تفكير مناهض للنظام يستحق العقاب.
جزى الله البرادعى كل خير فقد كشف لنا دون أن يقصد عن عورات النظام وضعفه واهتزازه بشكل لم نكن نتصور مداه. وبسرعة مذهلة دارت طاحونة الكذب والافتراء فى الصحف الحكومية وعلى ألسنة كهنة «المدينة المحرمة» وحراس أبوابها، فإذا الرجل الذى كانت تصفه نفس الصحف الحكومية بأنه مفخرة مصر وابنها البار الذى رفع اسمها عاليا والذى أشاد الرئيس مبارك بانتمائه لوطنه وبقدراته وخبراته، إذا به مزدوج الجنسية ومشكوك فى ولائه لبلده بل ويحمل لها ضغينة! وتنحصر خبرته فى مجال ضيق وهو الطاقة النووية، وله أجندة خفية ومدعومة من جهات أجنبية أمريكية ويقال إيرانية أيضا، «التى لديه نوايا حسنة بشأنها كما ذكرت جريدة الأهرام الغراء بل إن موقفه الشجاع من نفى وجود أدلة على امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل تم تحوره فى خلايا جريدة الأهرام ليصبح تسهيلا لغزو العراق مع أن موقف البرادعى هو الذى حال دون إصدار مجلس الأمن لقرار واضح يسمح بأى عمل عسكرى ضد العراق بالرغم من الضغوط الأمريكية والبريطانية، الأمر الذى حدا بالولايات المتحدة إلى معارضة التجديد له فى الوكالة. هذا الموقف أى معارضة أهداف الولايات المتحدة علنا فى أمر يتعلق بالحرب والسلم ــ لم تشهده الساحة الدولية منذ أيام همرشلد فى أوائل الستينيات».
ولعل من أغرب ما جاء فى مقال د. عبدالمنعم سعيد ـ بجريدة الأهرام يوم 5/12/2009 هو أن مصر لم تكن فراغا سياسيا خلال السبعة والعشرين سنة التى غابها البرادعى عن مصر «فقد جرت فيها «تغيرات عظمى» ليس أقلها أن عدد سكانها أصبح الآن ثمانين مليون نسمة بعد أن كانوا أربعين مليونا فى الثمانينيات»!
فهل هذا يعد من مآثر إنجازات النظام التى تدعونا للتمسك به لاستكمال مسيرة المشوار الذى بدأه فى موضوع مصيرى مثل الانفجار السكانى!
البرادعى والملف النووى
يقول د. عبدالمنعم سعيد فى مقاله بجريدة الأهرام يوم 5 ديسمبر: «إن السؤال المهم الآن هو ماذا سيفعل د. البرادعى مع إسرائيل، فلديه تصور لإقامة منطقة خالية من الأسلحة النووية يختلف عن التصور الذى تجاهد مصر من أجله». وقبل التعليق على هذا الشق من مقال د. سعيد أود أن أقول إن أحد المهام الرئسية للوكالة الدولية للطاقة الذرية هو الإشراف على تطبيق معاهدة منع الانتشار النووى والتحقق من التزام الدول الأطراف بها لبنودها، ولأن مصر وجميع الدول العربية قد انضمت لهذه الاتفاقية بينما رفضت إسرائيل الانضمام إليها، فقد أصبحت إسرائيل حرة طليقة بينما كبلت مصر وسائر الدول العربية نفسها بهذه الاتفاقية، وحتى يعلم القارئ الحقائق التاريخية، فإن مصر وقعت على الاتفاقية عام 1968 فى عهد الرئيس عبدالناصر وبعد سنة واحدة من الهزيمة ولكنها علقت التصديق عليها بشرط انضمام إسرائيل لها، ثم بعد ذلك تنازلت مصر عن هذا الشرط وصدقت عليها فى عهد الرئيس السادات، بينما ظلت إسرائيل حرة طليقة ليس عليها أى التزام قانونى فى هذا الصدد.
وهذا مثال صارخ للقرارات المصيرية التى تتخذ فى غياب الديمقراطية دون مناقشة شعبية ودون شفافية، فماذا فعلت مصر؟ لم يعد أمامنا الكثير لنفعله سوى قيامنا بتقديم مشورع قرار سنوى إلى الوكالة يطالب بإنشاء منطقة خالية من السلاح النووى فى الشرق الأوسط وهو القرار الذى عرف باسم القرار المصرى، وهو مقبول من جميع الدول حتى إسرائيل التى تعتبر أن ذلك هدف سيتم الوصول إليه بعد إقرار السلام الدائم فى الشرق الأوسط مع جميع الأطراف وقد أضافت إسرائيل باكستان أخيرا إلى المجموعة التى يجب أن تتخلى عن سلاحها النووى بعد السلام فى الشرق الأوسط وليس فى شبه القارة الهندية!
بالطبع البرادعى وأى مدير للوكالة يؤيد مثل هذه القرارات التى نطالب بإنشاء المناطق منزوعة السلاح النووى.
وهناك قرار آخر يقدم للوكالة سنويا ويسمى القرار العربى حول قدرات إسرائيل النووية. وموقف مصر تجاه هذا القرار لا يتطابق تماما مع الموقف العربى، نظرا لحسابات تتعلق بالعلاقات مع إسرائيل.
فأى أهداف هذه التى يتحدث عنها الدكتور سعيد التى تجاهد مصر من أجلها؟
ومادمنا بصدد الحديث عن البرادعى، فإننى أعلم أنه كتب ــ وهو دبلوماسى شاب فى بعثتنا فى جنيف ــ تقريرا يعارض فيه التصديق على اتفاقية منع الانتشار النووى.. وبالطبع ذهب أدراج الرياح.
البرادعى والسلك الدبلوماسى المصرى
على عكس ما زعمت الصحف الحكومية، لم يمر البرادعى على السلك الدبلوماسى المصرى مرورا عابرا، فقد عمل به قرابة الربع قرن من أوائل الستينيات وأصبح الساعد الأيمن للمرحوم إسماعيل فهمى وزير الخارجية فى السبعينيات وكان يتولى أهم الملفات، ومن بينها ملف الشرق الأوسط ثم عمل مع المرحوم الوزير محمد كامل حتى استقالته كما عمل لفترة كاملة فى بعثة مصر لدى الأمم المتحدة فى نيويورك ثم فى بعثتنا فى جنيف قبل أن يلتحق بمعهد الأمم المتحدة للأبحاث (اليونيتار) ثم الوكالة الدولية ــ وظل اسمه فى سجل الدبلوماسيين المصريين حتى بلغ سن المعاش ولايزال يحمل جواز السفر الدبلوماسى المصرى حتى الآن ولا يحمل غيره وليس لديه بالطبع أى جنسية أخرى كما صرح بذلك مرارا.
وأخيرا.. فماذا خلفته العاصفة؟
بعد أن هدأت عاصفة «الردح» الرسمية فدعونا نرى ماذا خلفته ورائها:
ازدادت قامة البرادعى ارتفاعا واحتراما وازداد الإعجاب به وتضاءلت قامات كثيرة، كنا نظنها ــ أو على الأقل بعضها ــ من الأخيار، وخلفت العاصفة وراءها أسئلة محيرة منها:
هل النظام بهذه الهشاشة والضعف، حتى أن مجرد الاعتذار عن الترشيح لعدم توافر الظروف الملائمة يثير كل هذا الذعر؟
هل هناك فى دهاليز السلطة والحزب الحاكم جزر متناحرة؟ فمن ناحية وجدنا آلة الإعلام الحكومى تنحو ذلك النحو الذى نعلمه ثم إذا بالدكتور حسام بدراوى وهو رئيس لجنة التعليم بالحزب الوطنى الحاكم يطلع علينا من الحزب بخط مغاير تماما أكثر عقلا ونضجا واحتراما، فهل هى نظرة جديدة للتعامل مع الموضوع بعد تحليل النتائج العكسية التى أسفرت عنها الحملة؟
ولكن الأمر يعود إلى دائرة الغموض مرة أخرى عندما تقرأ فى جريدة المصرى اليوم بتاريخ 9/12/2009 وفى العمود اليومى للأستاذ سليمان جودة ما يفيد أن حسام بدراوى الذى يرأس لجنة التعليم بالحزب الوطنى الحاكم ممنوع من الظهور فى التليفزيون الحكومى، فقد حاولت الأستاذة فريدة الشوباشى أن تستضيفه فى برنامجها التليفزيونى وفى اليوم الذى تأهبت فيه للتسجيل جاءها أمر عاصف بأن د. بدراوى ممنوع من الظهور على شاشة التليفزيون المصرى، فهل هى عزب منفصلة، كل يتصرف فى عزبته كما يحلو له؟!
وعلى الجانب الآخر، فقد أثبتت الصحافة المستقلة أنها جديرة بهذا الاسم، أما المعارضة فإن انزعاجها لا يقل عن انزعاج الحكم فقد رضيت بالمغانم التى حصلت عليها واطمأنت بها وعلم كل أناس مشربهم ومأكلهم وكل واحد منهم يريد الاستمرار فى أن يلعب دوره الذى أتقنه دون أن ينافسه أحد.
شكرا يا د. محمد البرادعى فقد حركت المياه الراكدة وأضأت شمعة لن ينطفئ نورها بإذن الله.