أمامنا احتمالان كبيران.
أولا، أن يكون الجميع عقلاء وتكون الروح السائدة هى روح التوافق والبحث عن المشترك الوطنى الجامع للمصريين. والبعض يعتقد أن التوافق على الدستور يعنى أن الكل سيؤمن بنفس الأفكار ويعتقد بنفس المبادئ ويوافق على نفس الترتيبات وصولا إلى أن نسبة الاستفتاء ستكون قرابة المائة بالمائة. والبعض يعود إلى قضية «الدستور أولا» مقتنعين بأننا لو كتبنا الدستور أولا فالتوافق قادم لا محالة. ولكن هذا غير صحيح، فالعديد من الدساتير التى كتبت من قبل جمعية تأسيسية منتخبة أو لجنة معينة انتهت بأن أعضاء الجمعية أنفسهم خرجوا بين أغلبية وأقلية، بل إن العديد من الدساتير خرجت باستفتاءات لا تعبر عن إجماع أو توافق واضح. ولنعد إلى دساتير أوروبا الغربية التى أُقرت باستفتاءات اقتربت من الـ 65 بالمائة. إذن التوافق لا يعنى الإجماع. وأى دستور سيُكتب سيكون له من يؤيده ومن يعارضه. ولكن المهم أن يحترم الجميع نتيجة الاستفتاءات والانتخابات وأن نعلن تحفظنا عليها، إن كانت لنا تحفظات، دون أن نسعى لتدمير شرعية كل ما لا نوافق عليه؛ وكأن «أنا الشرعية، أنا الشعب».
ثانيا، أن يجمح كل طرف فى تطرفه وأن يزعم أنه الذى معه الأغلبية أو معه الضمير الغائب للوطن، ونجد أنفسنا فى صراع بين من يعبر عن «تيار دينى اختارته الأغلبية» (يتم تصويره على أنه الإسلام الديمقراطى) فى مواجهة «تيار ليبرالى لم يستطع الوصول إلى الشعب» (يتم تصويره على أنه العقلانية الليبرالية)، بما يفتح الأمر لتدخلات غير ديمقراطية أو ليبرالية بناء على دعوة أو زريعة يقدمها الخائفون من المحافظين دينيا إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة فننتهى إلى تحالف «عسكرى علمانى» يطيح بالعملية نفسها على النمط الجزائرى.
وهنا سيكون اللوم متجها إلى المحافظين دينيا أنفسهم الذين لم يكونوا على نفس درجة مهارة وحذق نظرائهم فى تونس مثلا، ولم يكونوا أكثر قدرة على خلق التوافق والاشتباك فى حوارات ونقاشات سياسية تخلق هذا التوافق مع جميع الأطراف وبسبب عدم القدرة على التصحيح الذاتى للأخطاء والرد الواضح والقاطع ضد تطرف المتطرفين المنتسبين إلى التيار المحافظ دينيا ممن يشيعون بعنفهم اللفظى الفزع بين بعض القطاعات بشأن مستقبل هذا الوطن إن ترك الأمر لهم. ولكن هذا لا ينفى أيضا أن اللوم يتجه للفَزِعين والمُفزّعين من المبالغين فى التخوف من التيار المحافظ دينيا وكأن التيار كله يساوى المتطرفين فيه. وهذا قطعا ليس صحيحا.
ظننت أن الحوار بين المصريين ممكن، واعتقدت أننا من الفطنة أن نجلس على مائدة النقاش للبحث عن حلول ومخارج لما نواجه من تحديات، وتمنيت أن يكون «المجلس الاستشارى للقوات المسلحة» بكل من حضروه حين اجتمعت معهم أول مرة (وكانوا ممثلين عن جميع التيارات السياسية والفكرية فى مصر) آلية متحضرة لجمع الشتات. ولكن يبدو أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة قد نجح (بما كسبت يداه) فى أن يخلق صورة ذهنية سلبية عنه عند الكثيرين. وأما وقد أصبحنا بلا ساحة للنقاش العام الجاد إلا برامج النقاش الليلية وصفحات الجرائد الصباحية حيث الكل يزايد، والكل بطل، والكل زعيم، والكل له لسان، وليس له آذان، إذن: فلينتصر «أنا» ولتسقط مصر.