تزامن صباى وشبابى مع مد القومية العربية فى أوج عنفوانه، ووعيت على انتصارات العرب على الإمبريالية والاستعمار فى الجزائر وتونس وليبيا، ورأيت الأردن يطرد جلوب باشا القائد الإنجليزى للجيش العربى، ورأيت قاعدة ويلس فى ليبيا يصير اسمها قاعدة جمال عبدالناصر، رأيت العمال العرب ينسفون خطوط البترول احتجاجا على الاعتداء الثلاثى على مصر، ورأيت عمال الموانئ العرب يرفضون تفريغ السفن الأمريكية ردا على رفض عمال نيويورك تفريغ السفينة المصرية كيلوباترا. رضعت لبن العروبة ممزوجا برحيقها، ومع خريف العمر عندما وهن العظم منى واشتعل الرأس شيبا أتابع بألم وحسرة ما آلت إليه أحوال العرب من انقسام وتشرذم. وبعد أن كان العرب فى أوقات المحن يلجأون إلى الحضن العربى يحتمون ويلوذون به، صاروا الآن يبحثون عن الأمان فى أحضان الأعداء الطامعين فى إسرائيل تارة وإيران تارة والأمريكان تارة والروس تارة، وبلغ السيل الزبى عندما تقدم آلاف العرب بمذكرة لرئيس فرنسا بعودة الانتداب على بلدهم.
ورغم التنابذ والانشقاق بين العرب الذى وصل إلى حد الاقتتال وسفك الدماء فى اليمن والصومال وسوريا ولبنان والعراق وليبيا والسودان، وحشد القوات بين المغرب والجزائر، إلا أن أكثر ما يثير مخاوفى هو التنابذ وإثارة الكراهية بين الشعوب العربية عقب مباراة رياضية أو مشادة بين بائع ومشتر فى سوبر ماركت يلتقطها إعلام غير واع على شاشات التلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعى، ويحولون الأمر إلى طوفان من رسائل الكراهية والتنابذ، ويزداد الأمر ضغثا على إبالة عندما يلتقط الخيط بعض نواب البرلمانات العربية ليصبوا الزيت على النار ليزيدوها اشتعالا. لقد تغرب المواطن عن أخيه العربى، فبعد أن كانت الصفوة العربية تتربى فى جامعات القاهرة وبغداد وبيروت صارت تبعث النخبة إلى جامعات أوروبا وأمريكا، إما يذهبون إليها فى بلادها أو تذهب إليهم الجامعات إلى بلادهم تأسيا بنظام «الدليفرى»! تراجع أيضا دور الإعلام عندما كان صوت العرب يخاطب العرب من المحيط إلى الخليج والأهرام وروز اليوسف تقرأ فى كل الأقطار العربية لصالح برامج التلفزيون التى خضعت للإعلانات ووسائل التواصل الاجتماعى.
•••
العروبة قيمة سامية لابد أن نحافظ عليها ونعض عليها بالنواجذ لأنها مرتبطة بهويتنا وتاريخنا وأمننا، وإن رأينا تداعيا فى جدارها فعلينا ترميمها ودعمها وسد الثغرات فيها.
العروبة هوية ولا توجد هوية إلا بمعرفة تاريخ الأمة ومعالم الديار والتواصل والتلاحم بين الأهل والعشيرة.
لعل هذه القناعة تدفعنى إلى طرح فكرة مدارس العروبة لتربية جيل جديد من الشباب المؤمن بالعروبة الذى يعمل على إحيائها وإعادة الثقة فيها، على أن تكون هذه المدارس للمرحلة الإعدادية والثانوية تستقبل التلاميذ من سن الثانية عشر، وهو سن بداية النضوج والوعى، وأن تكون مدارس داخلية تحرص على أن تضم فصولا لكل الجنسيات العربية من المشرق إلى المغرب، والأهم كل العرقيات والملل العربية، فيجلس المسلم السنى بجانب المسلم الشيعى بجانب المسيحى الأرثوذوكسى والمسيحى الكاثوليكى والكردى بجانب الأمازيغى، والأسمر السودانى بجانب الأشقر اللبنانى يأكلون وينامون معا طوال سنوات الدراسة، وأن تكون للمدارس فروع فى كل الدول العربية، بحيث يقضى التلميذ سنة دراسية فى فرع المدرسة فى مصر وسنة فى الكويت ثم سنة فى المغرب ثم سنة فى العراق وسنة فى السعودية تليها سنة فى لبنان.
ولأن اللغة هى حجر الزاوية فى الهوية، يكون هناك تركيز على اللغة العربية ليكون الخريج قابضا على ناصيتها متحدثا بها بطلاقة وبلاغة عنوانا للإنسان العربى مع تركيز على اللغة الإنجليزية التى صارت Lengua Franca اللازمة للتعامل مع العالم.
الهوية والانتماء يخلقها الوعى والمعرفة؛ معرفة المكان ومعرفة الإنسان ولا شك أن هناك قصورا شديدا فى معرفة الشباب العربى بجغرافيا وتاريخ بلادهم، فكم عربى خارج مصر يعرف أين يقع منخفض القطارة أو واحة الفرافرة، وكم عربى خارج المغرب يعرف نهر أم الربيع أو جبل توبقال، وكم عربى خارج السودان يعرف نهر القاش أو حفرة النحاس، وكم عربى خارج اليمن يعرف جبل النبى شعيب، وكم عربى خارج لبنان يعرف جبل القرنة السوداء.
عندما يعلم العرب أن هذه معالم عالمهم يدركون أن تركيا عندما سرقت نهر دجلة لم تسرق حق سوريا والعراق، لكنها سرقت مياه العرب، وعندما سرقت إسرائيل مياه نهر الأردن فإنها لم تسرق مياه الأردن، ولكنها سرقت مياه العرب، وعندما تهدد إثيوبيا مياه النيل فإنها لا تهدد مياه مصر والسودان، لكنها تهدد مياه العرب، وعندما تحتل إيران جزر طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى فإنها لا تحتل أرض دولة الإمارات، لكنها تحتل أرض العرب.
•••
أما التاريخ فهو خصوصية الأمة ومصدر هويتها وفخرها واعتزازها، ومن المهم إبراز تاريخ ما قبل العروبة من حضارات فرعونية وبابلية وآشورية وفينيقية وقرطاجية، وأنها روافد ثرية تصب فى نهر العروبة وتؤكد عراقة حضارة العرب التى لا تمتد ألف وأربعمائة عام فحسب بل تمتد إلى سبعة آلاف عام. ورغم أن تاريخ العرب منذ الفتح الإسلامى قد أخذ حقه فى المناهج الدراسية، إلا أن التاريخ الحديث أهمل إلى حد بعيد، فكثير من الشباب اليوم لا يعلم شيئا عن حرب الريف فى المغرب، ولا عن ثورة عبدالقادر الجزائرى، ولا عن ثورة العراق عام 1920، وثورة سوريا الكبرى فى نفس العام، ولا عن ثورة المهدى.
هذا الشباب الذى تعلم تاريخه وعرف معالم وطنه وزارها فى رحلات ميدانية أثناء تنقله من بلد إلى بلد وتلاحم مع أقرانه يحتاج أن يمتلك ناصية العلم ليكون قائدا وفعالا، فيدرس له الرياضات بأسلوبها الحديث والفيزياء الحديثة التى يتعرف من خلالها على علوم الذرة والفيزياء الكمومية والأحياء الحديثة والهندسة الوراثية والاستنساخ والكيمياء الحديثة ليقود أبناء وطنه فى اقتحام ساحات العلم وتحقيق القوة والعزة والرخاء لوطنه. ولا يمكن أن تكتمل المنظومة دون جرعة من الفن التشكيلى والتعبيرى والموسيقى لتهذيب النفس والارتقاء بها. وأخيرا، وليس آخرا، برنامج رياضة لسلامة وقوة الأبدان والوقاية من الكسل والخمول لتخرج المدارس الإنسان العربى الكامل، لأن النخبة تصنع وتصمم وتهندس ولا تنمو بالمصادفة كالنبتة الشيطانية.
•••
دعونا نجرب تحقيق الوحدة من القاعدة بزرعها فى نفوس النشء والشباب بدلا من فرضها بالقوة من القمة.
لقد انتشرت فى بلادنا منذ أزمان طويلة المدارس الأجنبية الأمريكية والبريطانية والفرنسية والألمانية التى نجحت فى كسب مودة وتعاطف خريجيها إلى حضارة وتاريخ الغرب رغم إيمانى بوطنيتهم وإخلاصهم لوطنهم. فلماذا لا تكسب هوى شبابنا إلى العروبة بمدارسها التى تبذر البذرة فى النشء وتكسبهم إلى قضيتها.
•••
لعل طرحى مثالى وخيالى، لكن كل الأمور العظيمة تبدأ بالخيال؛ الهبوط على سطح القمر بدأ بروايات الخيال العلمى لادجار آلان بو، ثم جول فيرن فى القرن 19، ثم اتخذه الرئيس الأمريكى جون كينيدى هدفا يتحقق قبل انقضاء عقد الستينيات، وجعل وكالة ناسا الأداة للوصول إلى هذا الهدف وهذا الحلم بأسلوب علمى مدروس ومخطط، فلماذا لا تكون مدارس العروبة الأداة التى نعيد بها العروبة برونقها وبنائها وبريقها الحضارى؟ عندى أمل كبير أن يتحقق ما شدت به أم كلثوم من كلمات شاعر النيل حافظ ابراهيم: نظر الله لى فأرشد أبنائى فشدوا إلى العلا أى شد.
وسأظل أحلم حتى يتحقق حلمى بأن أرى تلاميذ من كل الدول والملل والنحل العربية ينشدون فى ساحة مدرسة العروبة نشيد الصباح أهلا بالمجد وبالكرم والفتية من خير الأمم... من شاطئ دجلة للهرم.. ومغانى الأرز إلى الحرم.. أكرم بالفصحى من رحم.
عضو المجلس المصرى للشئون الخارجية