(1)
أظننى لا أفارق الواقع والممارسة الجمعية التى صارت تقليدا ثابتا وقارا منذ رحيله، لو قلت إن نجيب محفوظ يحضر سنويا فى دوائر الفكر والثقافة والإبداع المصرى والعربى، فى ثلاث مناسبات أصبحت بمثابة نقطة استعادة وتذكر واستحضار هذه القيمة الإبداعية والإنسانية الفذة؛ ذكرى رحيله (30 أغسطس من كل عام)، وذكرى حصوله على جائزة نوبل فى الآداب (12 أكتوبر من كل عام) وأخيرًا ذكرى ميلاده (11 ديسمبر من كل عام).
تصبح هذه التواريخ الثلاثة؛ سنويّا، نقاط ارتكاز ومحطات انطلاق - لمن أراد - فى مقاربة وقراءة مشروع نجيب محفوظ الروائى، وفى استلهام تجربته الإبداعية والإنسانية، والانطلاق منها وتجاوزها ما تحقق شرط هذا التجاوز من التكوين والتحضر، وتمثل المعارف والخبرات اللازمة، وفق شرط اللحظة الراهنة، لظهور نجيب محفوظ جديد أو آخر أو مجاوز، أو قل هذا ما نتمناه.
وقد جاء الاحتفال بذكرى ميلاد نجيب محفوظ أو «سارد الأمة المصرية» فى القرنين الأخيرين، مصحوبًا بإعلان صدور كتاب صغير الحجم عظيم القيمة والفائدة (عن سلسلة اقرأ التاريخية العريقة) رآه البعض - وأنا أتفق معهم تمامًا لقيمة الكتاب وقيمة صاحبه - بمثابة حدث ثقافى كبير.
الكتاب اسمه «سردية نجيب محفوظ» (مدخل للقراءة)، ومؤلفه هو الناقد والمفكر الكبير والقدير والزاهد فى الشهرة والأضواء الدكتور محمد بدوى؛ أحد عقولنا المصرية الفذة التى تشكلت وتكونت فى سياق الحركة الطلابية النشطة فى السبعينيات، وبدأ نتاجه النقدى الناضج فى الظهور فى الثمانينيات، ووصل إلى نضجه الكامل - كناقد مفكر ومفكر ناقد - فى التسعينيات.
(2)
يمكن عدَّ هذا الكتاب الصغير «الوجيز» - كما يراه صاحبه - مدخلا «تأسيسيّا» للتعرف على العالم الشاسع والفريد للأديب الكبير، أو هو بعبارةٍ أخرى، مقدمة ضرورية ولازمة للحديث عن نجيب محفوظ، عالمه ومنجزاته، ويمهد الطريق - كذلك - لكتبٍ ودراساتٍ تفصيلية تالية للمؤلف، عكف عليها لما يقرب من نصف القرن!
يقول بدوى فى كلمته الموجزة، غاية الإيجاز، فى التقديم للكتاب:
«هذا النص بعضٌ من عمل المؤلف عن نجيب محفوظ على مدى يتجاوز نصف القرن، ويركز أساسًا على وقائع «التكوين»، كيف أنتج المجتمع كاتبه، كيف صاغه، وأعده ليكون المتحدث باسمه، مع الإصرار على أن يظل صوته مزدوجًا، يعبر عن الجماعة، وينقدها، وفى الوقت نفسه، يكتب ذاته ورؤاه حول الوجود الإنسانى، بتعقيده والتباسه، وكيف كانت سجايا محفوظ ورؤيته لذاته عاملا مهمّا فى خلق «سردية نجيب محفوظ» المواطن والكاتب، أو الإنسان والفنان.
من هنا جاء الكتاب فى فصلين اثنين؛ الأول «محاولة لفهم البدايات» قراءة فى تكوين نجيب محفوظ، والثانى «سردية نجيب محفوظ» الذى استقى منه الكتاب عنوانه الظاهر.
لقد مثَّل نجيب محفوظ فى تاريخ الأدب المصرى والعربى المعاصر ظاهرة حقيقية. ظاهرة يجب أن نتأملها جيدًا، «الطفل» الذى كان يجرى وراء عربات الرش فى شوارع حى الجمالية وأزقتها، كيف استطاع أن يحقق هذا المجد كله، بدءًا من التأسيس الحقيقى للرواية العربية، حيث نجح فى إنتاج صورة للواقع، الذى ظل فى حالة من التكون والتغيير، لا تكتمل ولا تنغلق، ثم الدخول إلى الرواية التى تكتب «الفكرة»، وصولًا إلى الكتابة التى تتجاوز ما يسميه بدوى «أجرومية الرواية» إلى الكتابة غير النوعية، عبر الشذرات، والأحلام، وأحلام اليقظة، فى كتبه الأخيرة، الواقعة فى منطقة بين الأقصوصة وقصيدة النثر.
(3)
ببساطة يقدِّم الناقد الفاحص المتأمل، فى هذا الكتاب الوجيز، محاولةً - أراها فذة ومختلفة بكل المعايير والمقاييس وفى حدود عشرات القراءات التى استغرقت فيها لما يزيد على الثلاثين سنة - كى يفهم، ونفهم معه، بعضًا من تجربة نجيب محفوظ، الكاتب والمواطن.
يرى بدوى، من مجمل معايشته لمتن نجيب محفوظ وصحبته والاستغراق فى تفاصيله، ومعاودة التأمل والمراجعة، والقراءة، أن «نجيب محفوظ هو الروائى بألف لام التعريف. الروائى الأخير الذى كان يمتلك مشروعا كاملا»..
كان محفوظ يمسك بعصا موسى التى أكلت ما قبلها. وبعد قراءته تغير كل شىء فى وعى الناقد، حصل تراتب للوعى الجمالى لديه، ومن هنا عكف الناقد على درس «الروائى» وتأمله وفحص خطابه وتحليله بدقة منتجا تأويلاته لهذا المتن المحفوظى الفريد.
يعتبر بدوى أن «الكتابة الروائية وصلت لقمة شكلها الكلاسيكى على يد نجيب محفوظ، بعد هذه الذروة بدأ التمرد، حيث قام أدباء الستينيات، ومَن بعدهم من كتّاب، بالتمرد على هذا الشكل الكلاسيكى، وحتى محفوظ نفسه شاركهم فى تدمير كلاسيكية البناء الروائى».
(4)
أخيرًا، فالكتاب - أيضًا - بمثابة تمهيد وتوطئة لدراساتٍ معمقة و«مفصلة» وكاشفة فى أدب نجيب محفوظ، دراسات تتناول «رؤية العالم» لدى نجيب محفوظ، والوجود البشرى، وقد عكف الناقد الكبير على دراسة أدب نجيب محفوظ، تحديدًا، كل هذه المدة الطويلة بكاملها؛ لأنه - فيما يرى - هو الذى قدّم أعلى صياغة أدبية متكاملة لفكرة «الهوية» فى المجتمع المصرى، كما يرى أن مشروع محفوظ الأدبى هو الأكثر اكتمالًا روائيّا منذ ظهور الرواية العربية وحتى الآن.