(1)
ومن مباهج رمضان وحلاوته التى تتجدد على مدار الأعوام والأزمان تلك الحالة الجميلة التى تربطنا بالقرآن وجمال القرآن، وسحر القرآن، وقصص القرآن!
لا أعلم تاريخًا محددًا ربطنى بالقرآن وسحره؛ تلاوته والاستماع إليه، ربما أكون ورثت ذلك عن أبى، وعن جدتى لأمى رحمها الله.. لكنى أعلم يقينا أننى انبهرت منذ الصغر (وفى السنوات الأولى للمدرسة) بالقصص الدينى عموما، وقصص القرآن، وقصص الأنبياء، والسيرة النبوية بالأخص!
فكل قصة منها سحر كامل وجمال فنى خالص، وأحداث مشوقة ومثيرة، والعناية الإلهية تظهر لتنقذ هذا النبى أو ذاك من ورطته أو أزمته أو مواجهته للمكذبين بدعوته أو المقاومين لرسالته أيا ما كان! فُتنت بقصص القرآن وقصص الأنبياء فى فترة جد مبكرة من عمرى.. وتولد ذلك الإحساس المبهم الغامض لا بجمال الحكايات والقصص فقط؛ إنما أيضًا بجمال سردها وطريقة حكيها، والإيحاءات «الروحانية» البهيجة التى تمس القلب والروح فى كل قصة، وكانت هذه «البذرة»، ربما دون أن أشعر، التى غُرست فى روحى وعقلى كى أبحث بعد ذلك عن السؤال عن مصدر هذا الجمال، وسبب هذا الإحساس.. وربما كانت أيضًا هذه هى البذرة للبحث عن جمال اللغة، وجمال المكتوب بها، والتعمق فى درس مستوياتها.. إلخ.
(2)
سنوات وأنا أعايش هذا الجمال وأتمتع بهذا السحر إلى أن أدركت أننى لست وحدى من يتنعم بهما فقد قرأت لنجيب محفوظ ما كتبه عن الإحساس ذاته والمعايشة نفسها؛ يقول:
«ألم نقرأ القرآن؟ بلى. وحفظنا ما تيسر من سوره وآياته، وكان - وما يزال - له فى قلوبنا عقيدة وفى وجداننا سحر، بيد أنه كان ذاك السحر الغامض المغلق، تحسه الحواس، ويهتز له الضمير، دون أن يدركه العقل أو يبلغه التذوق، كان كالنغمة المطربة التى لا يدرى السامع لماذا ولا كيف أطربته!».
لكن الإحساس بالجمال يسبق دائما البحث عن ماهية هذا الإحساس وكينونته! أى إن معايشة الجمال بالقراءة والتلاوة والاستماع بتلك الأحاسيس المبهمة الغامضة، واللذة التى تصاحب هذه الحالة من الانغماس فى جمال التلاوة والاستماع والتخيل لكل صور ومشاهد هذه السورة أو تلك، لهذه القصة أو غيرها، تتحقق هذه الحالة بكاملها فى القرآن من سورة الفاتحة إلى سورة الناس، وثمة سورة بذاتها تقف أمامها وتستعيد مرة بعد مرة لذة الاستماع والقراءة والوقوف طويلا ومليا أمام جمالها الخاص وأمام ما تقصه من أحداث ووقائع وسيرة هذا النبى (سورة القصص، وسورة الأنبياء وسورة طه وسورة يوسف وسورة مريم، على سبيل المثال).
هكذا يكون استشعار الجمال والإحساس به سابقا على البحث عن ماهيته واكتشاف تفاصيله وإدراك علاقاته، بعد ذلك بسنوات سأكتشف أن هناك من بحث فى هذا الجمال، وقدم معرفة رائعة ببعض تفاصيله ومجاليه، وكتب فيه مقالات وكتبا تبحث عن «التصوير الفنى فى القرآن»، وعن البلاغة القرآنية، وجمال القصص القرآنى وماهيته.. إلخ.
(3)
وقد كان «القرآن» هو المصدر الأول والوحيد لكل ما قرأته من قصص ميسرة ومبسطة للأطفال مناسبة لتلك السن الصغيرة (السابعة تقريبًا)، منها مجموعات «القصص الدينى»، و«قصص الأنبياء» لبرانق وأقرانه، ومثلها عبد الحميد جودة السحار، التى سأظل مدينًا لها ولبساطة لغتها وضبط نصها والقدرة اللغوية الفائقة التى اكتسبتها من قراءة هذه المجموعات فى سن مبكرة للغاية كان لها دورها وأثرها البالغ فى نقل مستواى اللغوى إلى درجة لم يقاربنى فيها أحد من أقرانى طوال المرحلة الابتدائية والإعدادية، وما تلاها!
أول ما قرأتُ فى حياتى، وطالعته عيونى من أسطر وأحرف مرقومة كان طبعة ملونة من قصص الأنبياء للأطفال (لا أذكر عنها شيئا سوى صور وتهاويم ضبابية) لكننى أذكر جيدًا، وكنتُ فى الصف الثالث الابتدائى أننى قرأت المجموعة الرائعة التى ألفها عبد الحميد جودة السحار بعنوان «القصص الدينى» فى أربع حلقات، تتكون كل حلقة من أجزاء متصلة؛ الأولى «قصص الأنبياء» (فى 21 جزءًا)، والثانية «السيرة النبوية» (24 جزءًا)، والثالثة قصص «الخلفاء الراشدون» (20 جزءًا)، وأخيرًا قصص «العرب فى أوروبا».
وأزعم أن هذه القصص المبسطة التى لم تكن الواحدة منها تزيد على عشرين صفحة من القطع الأكبر من الصغير، وحروفها مكبّرة ومشكولة، كانت هى نقطة البدء والانطلاق لقراءاتٍ أوسع وأكبر وأكثر عمقًا وتخصصًا ودقة فى الثقافة الإسلامية، والتاريخ والحضارة.
(4)
استلهم السحار «القصص القرآنى» فى إنشاء هذه المجموعة، وكتب فى مقدمته لها يوضح ذلك «وفى القرآن الكريم قصص رائع جميل، فلم لا يأخذ مكانه فى مكتبة الطفل؟ ولم لا تنتفع هذه المكتبة بهذا التراث الجميل؟».
وقد راعى المرحوم السحار عند كتابتها اعتبارين: الأول أن تكون النصوص القرآنية هى المصدر الأول لما يكتب، والثانى، أن يحقق السرد الفنى للقصص الذى يربى فى الطفل الشعور الدينى، ويقوى الحاسة الفنية، وينمى الذوق الأدبى. وأظنه نجح تمامًا فيما قصد إليه.
والله إن هذه السلسلة، لكانت ذات أيادٍ بيضاء ليس على فقط، إنما على جيلى كله..
(وللحديث بقية)