«الليث».. فقيه مصر وإمامها - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الأحد 9 مارس 2025 4:17 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

«الليث».. فقيه مصر وإمامها

نشر فى : السبت 8 مارس 2025 - 7:20 م | آخر تحديث : السبت 8 مارس 2025 - 7:20 م

(1)
سعدتُ كثيرًا بالخبر الذى أعلنته الهيئة الوطنية للإعلام برئاسة الكاتب والإعلامى القدير أحمد المسلمانى، بإطلاق اسم العالم الجليل فقيه أهل مصر وإمامها رفيع المقام «الليث بن سعد» على مسجد الهيئة الوطنية للإعلام بماسبيرو، فى بادرةٍ رائعة لإحياء سيرة أئمة أهل مصر الكرام وتراثهم المعتبر، ليس فقط بوصفهم رجال دين وفقهاء ومحدثين من طراز رفيع، بل أيضًا باعتبارهم صناع معرفة ومنتجى ثقافة ميزت مصر فى عصور الولاية والدول الإسلامية المتعاقبة بالقرون الوسطى، وقد كان الإمام الليث بن سعد رأس هذه المدرسة المصرية العلمية جليلة الشأن رفيعة المقام.
وبذلك يصبح اسم الإمام الليث علمًا على مسجدين كبيرين بمصر المحروسة؛ أولاهما مسجده الأصلى بحى الخليفة بمصر القديمة، والذى تم تطويره فى العصر الأيوبى، والثانى بمبنى الإذاعة والتليفزيون فى ماسبيرو.
وما من كتابٍ أرّخ للثقافة المصرية فى العصور الإسلامية أو للحركة الفكرية والأدبية والدينية التى نشأتْ بها وأثمرت علماء ومؤرخين وفقهاء ومحدثين ورواة سيرة.. إلخ، إلا وتوقف عند الإمام الليث بن سعد فقيه مصر فى القرن الثانى الهجرى، ذلك الذى قال عنه الإمام الشافعى، منوهًا بقدره ومكانته الفقهية: «الليث بن سعد أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به».
(2)
وتفيدنا المصادر التاريخية الموثقة بأن الليث بن سعد بن عبد الرحمن المولود بقرية قلقشندة (أو قرقشندة، كما تسجلها بعض المصادر الأخرى) بدلتا مصر سنة 94ﻫ، كان أكبر عالم فقيه شهدته مصر فى القرن الثانى للهجرة، أخذ العلم عن فقهاء مصر ومحدِّثيها أمثال يزيد بن أبى حبيب، وجعفر بن ربيعة، وغيرهما، ثم رحل إلى الحجاز والمقدس وبغداد فى طلب العلم ورواية الحديث، ونبغ الليث فى الفقه نبوغا ظاهرا وعُرِفَ به، واشتهر عنه.
وتفيدنا كتب التراجم والسير بأن الإمام الليث كان ثريّا كريمًا، ومع فقهه وتدينه كان يأخذ بنصيبه فى الحياة الدنيا التى لم يحرمها الله، وقد كتب مالك إليه يقول: «بلغنى أنك تأكل الرقاق، وتلبس الرقاق، وتمشى فى الأسواق»، فأجابه الليث بن سعد: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} إلخ الآية المعروفة من سورة الأعراف (الآية 32).
وكان الليث على حظٍّ كبير من المال، وقسطٍ وافر من العلم، وكان يساجل مالكًا بالمراسلة، ويأخذ عليه أمورًا لا يراها هو.
ويروى الإمام السيوطى عن أبى الوليد عبد الملك بن يحيى بن بكير، قال: سمعت أبى يقول: ما رأيت أحدًا أكمل من الليث بن سعد، كان فقيه البدن، عربى اللسان، يحسن القرآن والنحو، ويحفظ الشعر والحديث، وحسن المذاكرة - وما زال يذكر خصالًا جميلة ويعقد بيده حتى عد عشرًا - لم أر مثلهم.
(3)
وقد وقف المؤرخون كثيرا عند سيرة الإمام الليث، وفصلوا القول فيها، كما أفاضوا فى تبيان فضائله، وكان مما أبرزوه فى هذا التناول مكانته فى الفقه وبروزه الظاهر فى الفتيا وتشقيق المسائل، والمرويات فى ذلك كثيرة وشهيرة يضيق بها المقام، كما وقفوا أيضًا عند تلاميذه ونوهوا بمكانتهم فى العلم والفقه، ومنهم على سبيل المثال إسحاق بن الفرات صاحب مالك وقاضى مصر، والذى قال الشافعى عنه: «ما رأيت بمصر أعلم منه باختلاف الناس»، وقال ابن علية: «ما رأيت ببلدكم أحدًا يحسن العلم إلا ابن الفرات» وتُوفى سنة 204ﻫ.
فى الأخير، فإن هذا كله إن دلّ على شىء، فإنما يدل على أن الليث بن سعد كان فقيهًا مبرَّزًا عرف معاصروه حق علمه، فقدَّروه كل التقدير، وكانت آراؤه فى الفقه تُعد مذهبًا من المذاهب الفقهية المعتبرة عند أهل السُّنة والجماعة، لكن ما وصلنا من سيرته وأثبتته المصادر أنه لم يترك كتبا مؤلفة، ولم يصنِّف من الكتب كغيره من الفقهاء، ولم يدوِّن أصحابه (وتلاميذه) المسائل عنه؛ ولهذا قال الشافعى: ضيَّعه أصحابه.
(4)
وبرغم أن أكثر فقهاء مصر الذين عاصروا الإمام الليث، من أمثال عبد الله بن وهب، وعبد الله بن عبد الحكم وأولاده، قد تفقَّهوا جميعا بالليث بن سعد، وتأثروا به ووقر فى قلوبهم محبته وتقديره وتعظيمه، لكنهم كانوا يُؤْثِرون (يفضلون) مذهب مالك على مذهبه، وفى ذلك يقول الدكتور محمد كامل حسين فى تاريخه القيم للحركة الفكرية والأدبية بمصر «ولكن المصريين لم يحافظوا على مذهبه وآرائه، واهتموا بمذهب مالك، فانتشر بينهم فقه مالك وفُقِدَ فقه الليث».
هذا هو الإمام الليث بن سعد الذى أسِف الإمام الشافعى على فوات لَقْيِه (لقائه ومقابلته)، ولو كان تلاميذ هذا الإمام العظيم عُنوا بعلمه وفقهه لكان له شأن آخر غير هذا الشأن..
وهذا هو إمام مصر العظيم الذى ملأ الدنيا علمًا نافعًا وفقها سمحًا ييسر على الناس معاشهم، ويبْسط أمامهم روعة وسمو القيم الدينية الإسلامية، والمبادئ الأخلاقية الإنسانية، فضلًا عن دور ثقافى موسوعى عُدّ نموذجا للتعايش والتسامح وقبول الآخر والإقرار بالتنوع والتعدد، وهما ملازمان للحياة الإنسانية منذ فطر الله الدنيا ومن عليها.