عرفت الصحفى والكاتب توماس جورجيسيان، ابن البلد الشبراوى المصرى من أصل أرمنى، أولا كقارئ شغوف بما يكتبه فى تقاريره الصحفية العميقة، أو فى مقالاته الرائقة عن الفن والأدب والحياة، ثم كصديق أعتز به، التقيته شخصيّا لأول مرة من سنوات قليلة، فكأننى أعرفه منذ الطفولة، وكأننا رفاق رحلة العمر بتمامها.
يأسرك فيه، منذ أن تعرفه، تلك «التركيبة السحرية» التى امتزجت فيه دون تنافر، بين مصريته، وجذوره الأرمنية، ونظرته الإنسانية، مما جعله ثرى الرؤية والمعرفة، بسيطًا ومتأملًا بعمق، ساخرًا وعاشقًا للحياة، ولديه تجربة واسعة، سواء بالقراءة، أو بالسفر والمعايشة.
كنت ممن طاردوا توماس لكى يكتب حصاد مشوار العمر، خصوصًا أنه أيضًا حكاء بارع، لذلك أسعدنى أن يُصدر كتابًا عن دار الشروق، بعنوان مدهش حقّا هو «إنها مشربية حياتى.. وأنا العاشق والمعشوق»، يمكن اعتباره ذاكرة خصبة تفتح على طوفان من الحكايات، التى كتبت بكثير من الصدق والحميمية، وبأسلوبٍ سلس، يعكس تلك التركيبة السحرية، ويترجم شخصيته المحبة للجمال، والساخرة والمتأملة أيضًا.
روحه المصرية، وعاميته الممتزجة بالفصحى السهلة، وحضور أرمينيا أرضًا وشعبًا ومأساة وأدبًا وفنّا، وخلاصة ما تعلمه من الكبار الذين اقترب منهم، كل ذلك صنع خليطًا مشوقًا، وجعل من رحلته الطويلة سياحة ممتعة، ومشربية يطل منها على الذات والأسرة والأب والأم، والقاهرة، وشارع الترعة البولاقية، وشارع قصر العينى، ومجلة «صباح الخير»، وواشنطن، ونجيب محفوظ ويحيى حقى ويوسف إدريس وصيدلية «مترو»، وابنته مارجريت، مثلما يطل منها على ذاته التى اختارت الانتقال من الصيدلة إلى الصحافة والكتابة.
يتأمل الصبى الذى تعلّم فى مدرسة كالوسديان الأرمنية، مثلما يتحدث عن المراسل الصحفى الذى عاش فى واشنطن، متابعًا للأحداث لأكثر من ثلاثين عامًا، ويحكى ببساطة تلميذ استوعب دروس يحيى حقى، فلا يتحذلق ولا يتعالى، وإنما يغزل وينسج بمهارة، ولا يتردد فى استخدام كلمة عامية لا يمكن أن تحل محلها أى كلمة، فما الذى يمكن مثلا أن يحل محلّ كلمة مثل «فتفوتة»؟ وما الذى يمكن أن يعبّر عن صخب وحيوية شارع عماد الدين كأن تصفه مثلا بأنه «شارع فيه رِجل» بكسر الراء؟
لم ينعزل المصريون الأرمن فى جيتو، ولكنهم صاروا جزءًا من نسيج الوطن، موهوبين وعاشقين للحياة وللعمل، ولكنهم يحتفظون بذاكرة المأساة والمذابح التى ارتكبت ضدهم فى العام 1915، والد توماس الصامت، عرف الفاجعة وعمره أربع سنوات، ولكنه صنع أسرة، وأصر على أن يتعلم أبناؤه جميعًا، وكان ممتنًا دومًا لمصر التى احتضنت الأرمن، وقت أن جاءوها بدون حقائب أو وثائق شخصية.
بدا لى أن توماس يعوّض هذا الصمت بحكاياته المكتوبة، اختار أن يكتب بصيغة المضارع، فكأنه يستحضر الجميع أحياء من جديد، وكأنه يكتب عن الماضى بوعى اللحظة الراهنة، هكذا أيضًا عرفنا الأم الصبورة المكافحة التى علّمت توماس وإخوته قيمة كل شىء، والتى جعلت من بيتها «أرمينيا صغيرة».
وانتقلت هذه التركيبة السحرية إلى مارجريت، الابنة الوحيدة لتوماس، وكتابته عنها من أجمل فصول الكتاب، مضافًا إليها المسحة الأمريكية؛ لأن أمها أمريكية، ويتجدد هذا الثراء الناتج عن ثقافات متعددة، وخبرات إنسانية واسعة.
مثل صيدلى ماهر، تعلّم توماس أهمية أن تكون الكتابة أيضًا بمقادير محددة، لا تزيد ولا تنقص، تحضر الأماكن والأزمنة، ويحضر البشر قديما وحديثا، وتتيح مهنة الصحافة، أولًا فى الجريدة الأرمنية الشهيرة «هوسابير» التى تصدر فى القاهرة، ثم فى مدرسة الهواء الطلق فى مجلة «صباح الخير»، أن يتسع عالم الشاب توماس، وأن يقترب من نجوم الصحافة؛ مثل مصطفى أمين، وإحسان عبد القدوس، وأحمد بهاء الدين، وكمال الملاخ، ثم أن يعرف بشكلٍ وثيق كبار أدباء العصر والأوان، مثل توفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، ويحيى حقى، ويوسف إدريس، ود. حسين فوزى.
يكتسب السرد حيوية بالغة بالتفاصيل الصغيرة، واللفتات الذكية، بحكايات صيدلية مترو الظريفة، وبلمسات الكبار الإنسانية معه، بتشجيع لويس جريس وعلاء الديب لتوماس، ونشر أول موضوع له عن جبران خليل جبران فى مجلة «صباح الخير»، بحضور يحيى حقى وزوجته لحفل زفافه، وبتعليقات الحكيم وأسئلته فى جلسات الطابق السادس فى «الأهرام»، بقصص يريفان ونادى الصحافة القومى، وصعود التيار الدينى فى الجامعة، وبشوارع ومقاهى وسط البلد فى كل الأوقات.
هى لوحة واحدة - لو تأملت - ولكنها متعددة الألوان، تم تركيبها بطريقة «العاشق والعشوق»، متداخلة ومتماسكة، لا تستطيع أن تعزل جزءًا منها عن غيره، مع افتتان كبير بالحكايات، أو «هيكيات» بالأرمنية، والتى تنتهى فى التراث الأرمنى بأن يقول الراوى بأن ثلاث تفاحات سقطن من السماء: التفاحة الأولى لمن يحكى الحكاية، والتفاحة الثانية لمن يسمعها، والتفاحة الثالثة لمن يمر بهما، وينصت إلى تلك الحكاية.
وإذا كانت كلمة «هوسابير» تعنى «حامل الأمل» أو «الآتى بالأمل»، فإنها تصلح أن تصف توماس نفسه، والذى يقول إنه لا يتوقف حتى اليوم عن التعلم والمعرفة، والذى «يحكى ليعيش»، فالحكى والكتابة متعتان فى حد ذاتهما، والسعادة فى الرحلة والطريق.
لا ندم ولا جلد للذات، وإنما تصالح مع النفس ومع العالم، بل وسعادة بهذا الثراء الذى تحقق بمعرفة كل هذه الشخصيات، وبأن يكون أرمنيا، ولد وعاش فى مصر، وانتقل إلى أمريكا.
لا شك عندى أنه ما زال يمتلك الكثير: «التجربة الأمريكية» وحدها تستحق كتابًا مستقلًا، بصعوباتها ونجاحاتها، وبكواليس تغطياته الصحفية فى مراكز صنع القرار.
أظن أيضًا أنه يستطيع أن يكتب رواية شيقة، حكايات الصيدلية بمفردها دراما كاملة مثيرة، نصحه يوسف إدريس بأن يكتب رواية، ويجعل حواراتها المنزلية باللغة الأرمنية، ويجعل حواراتها خارج المنزل باللغة العربية.
ما زال للحكى بقية، وما زالت «التركيبة» فعّالة ومؤثرة، فلا شىء يبقى مثل الحكايات والصور التى تزيّن الكتاب، والتى تقول لنا إن من عاش فى ذاكرة الآخرين أبدًا لا يموت.