وبعض الغياب حضور! - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الإثنين 27 يناير 2025 12:03 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

وبعض الغياب حضور!

نشر فى : السبت 25 يناير 2025 - 7:35 م | آخر تحديث : السبت 25 يناير 2025 - 7:35 م

يمتاز فن القصة القصيرة بهذا الأثر الواحد الذى يتركه فى ذاكرة القارئ بعد الانتهاء من كل قصة، ولكن هذه المجموعة القصصية الفائزة بجائزة ساويرس، لمؤلفتها آية طنطاوى، والصادرة عن دار العين، بعنوان «احتمالات لا نهائية للغياب»، تترك فى الذاكرة أثرًا واحدًا قويّا بقصصها مجتمعة، لأنها تبدو مثل لوحة واحدة مكوّنة من لوحاتٍ بلون الرحيل والغياب، وبطعم الشجن والحلم، وبعبير نساء الأسطورة والواقع معًا، فلا الاختفاء يتوقف، ولا الحكايات تنتهى.
يصل تماسك وتكامل لوحات تلك السردية إلى مستوياتٍ مدهشة، لأننا أمام متتالية قصصية متحدة «التيمة»، ومن مقام واحد، ولأن آية بارعة فى اختيار حكاياتها بهذا المزيج المركّب الذى يتماس مع الواقع والحلم والأسطورة معًا، والذى يؤشر إلى مكان بعينه، ولكنه ليس الحقيقة بالضبط؛ لأنه مفتوح على آفاق الحكاية والخيال، كما أننا أمام لغة مكثفة وممتلئة بالصور وشاعرية أحيانًا، حفظت للمجموعة قوة تأثيرها، وائتلاف عناصر بنائها.
وإذا كانت «التيمة» التى تنتظم الحكايات هى «الغياب»، وإذا كانت المجموعة تتصدرها كلمات وديع سعادة فى قصيدة «جمال العابر»: «وأيّةُ لحظة تكتشف الحياة أكثر من لحظة الغياب عنها»، فإن حضور الحكاية، ولا ننسى أن شهرزاد سيدة الحكايات «امرأة»، قد جعل من سرد الغياب حضورًا للذاكرة، وجعل من نساء الحكايات الغامضات أسئلة معلّقة ودائمة، وربما أكثر قوة من رجال الحكايات.
أحد عناصر جمال هذه المجموعة فى تلك المراوغة بين حضور رجالى وغياب نسائى، ولكنك لو تأملت قليلا، لاكتشفت أن الرجال حاضرون باعتبارهم مسئولين عن هذا الهروب النسائى، إنه حضور ثقيل بحجم الاتهام والسلطة والقوة الغبية، بينما يبدو غياب النساء منطقيا، مثل أطياف غامضة، تركت عالم الواقع، لأنه لا يستحق وجودها.
وربما يكون عالم الحلم، وهو محورى فى الحكايات، هو الأنسب لحضور هذه الأطياف، وصور الأحلام هنا ليست فواصل يمكن القفز فوقها، بل هى «العالم الموازى»، بالألف واللام، الجدير حقًّا بالغائبات. وسائل ذكاء المعالجة فى المجموعة متعددة، أبرزها أننا أمام قصصٍ قديمة متجددة، تضرب بجذورها فى الأسطورة، وتحمل شخصياتها أسماء واقعية، ويتكرر فيها الحديث عن مكان بعينه هو «سور مجرى العيون»، وتظهر مفردات الواقع الشعبى بالذات فى لوحاتٍ كثيرة، ولكن قبل أن تسقط القصة فى واقعية مباشرة، يحملها الحلم إلى مستوياتٍ أخرى.
هنا سبيكة مراوغة للغاية، تصنع حرية فى انتقالات الزمان والمكان، والخيال والحقيقة، دون تجريد، ودون إغراق فى تفاصيل الحياة الراهنة، لذلك بدَت القصص على الحافة، مثلما ظلت العلاقة بين الرجل والمرأة على الحافة، فكأنها تنويعات على نفس النغمة، مهما اختلفت الأجيال والأزمنة.
وإذا كان رجال المجموعة يطاردون المرأة، وربما ينتقمون منها، حتى فى الأحلام، فإن نساء الحكايات يُفرض عليهن الاختفاء، أو تخترن ذلك بكامل إرادتهن، ويكون ذلك أحيانًا هو الخيار الوحيد، والحل الحتمى لمواجهة القهر أو الاتهام أو التهميش.
يجعلنا ذلك نستعيد تعبير «جمال الرحيل» فى قصيدة وديع سعادة، لأن وصف العالم الموازى، سواء كان حلما أو خيالا، يجعله جميلا بالفعل فى حالات كثيرة، بقدر ما يجعل من حضور الرجال ثقيلا ومنفرا وكئيبا.
ومثلما بدأت سردية «ألف ليلة وليلة» بحادثة شرف وقتل، ثم دخول الحكاية لتسجل وتشهد، فإن مأساة نساء «حى الغايبين» فى المجموعة بدأت أيضًا بحادثة شرف، بتخلّص السقا من زوجته، بوسوسة جان، وبدعم من نديمٍ إنسى، ثم باستمرار المأساة مع ابنة المرأة المغدورة، تليها غيابات نسوية جماعية، تذكرنا على نحوٍ ما بمجازر شهريار التى لم يوقفها سوى حكى شهر زاد.
لا أعرف هل فكرت آية على هذا النحو أم لا، ولكن التقاطع غريب وواضح، ربما لأن المجموعة تفتش فى تاريخ العلاقة بين «القاهرين» و«الغائبات»، وبين رجال الحكايات، ونسائها، وفى قلب الذاكرة، ولو لا شعوريّا، تقف شهرزاد حامية النساء بالحكايات، فى مواجهة شهريار، قاتل النساء بسيف مسرور، وحامل لواء الشرف الذكورى، فى مقابل امرأة خائنة بالضرورة، وذات ضلع أعوج، وصولًا إلى كونها مسئولة عن الطرد من الفردوس، ومصادقة الحية المغوية بالعصيان.
ولكن النهر الذى كان يحمل الماء إلى مجرى العيون يختفى مع الغائبات، وتُبذل محاولات لاستعادته، واحتجاج النهر بالغياب، وبالتضامن والمنع، يعبّر عن خلل فى الطبيعة إذا غابت المرأة، فهى الأقرب بالتأكيد إلى معنى الحياة والخلق المتجدد.
تتلوّن الأجواء، وتتغيّر الفصول، ما بين صيف وشتاء وربيع، وتتسلل مستحدثات العصر من سينما ولابتوب وشبكة عنكبوتية، ويسرى الزمن فى الواقع، ولكن عناصر اللعبة لا تتغير، وإنما تتكرر بتنويعاتٍ مختلفة:
حضور واختفاء، ومطاردة من الرجال للنساء على مستوى الأسطورة والواقع، بل والحلم أيضًا، وحكى متصل يرصد ويسجل، حتى لو اختلف الرواة، فالحكاية واحدة، وهناك أسباب لا نهائية للغياب.
قد تعود المرأة صامتة فى أحد الأحلام، ولكن القصة تصنع لها لسانًا، وتجعلها تحكى، وقد يهدم الرجل مقام خضرا عطية التى تسمع لشكوى النساء، فتحوّل الحكاية قصة الهدم إلى مقام للذكرى وللذاكرة، وقد نظن أن ظلام عربة الترحيلات، وانقطاع سجيناته عن العالم هو نهاية مبكرة للمجموعة، ولكن هذه السيارة سرعان ما تفتح على الأسطورة، وعلى عدة قصص متتالية، فيخرج النور من قلب الظلام، وتتحول رحلة السجينات، إلى رحلة الغائبات، فى كل زمان ومكان.
لا أظن أننا أمام نهاية على الإطلاق، فصحيح أن الحكى لم يعد آمنًا، وأن الجدة حريصة حاملة الأسرار، ستطوى الحكايات، بدافع حماية النساء، ولكن من يصدق أن تكفّ شهرزاد عن الحكى وقد عرفت تأثيره؟ ومن يمنع الغائبات من الحضور بقوة الحواديت العابرة للأزمان؟
لم تكن المشكلة فى الراحلات، ولا فى الساردات، ولا فى شهرزاد، لكنها كانت فيمن يقف وراء أسباب الغياب، قسرا أو اختيارا، وفيمن أغضب النهر، فذهب أيضًا مع الغائبات.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات