عن الدراما واللغة العربية - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الأحد 9 فبراير 2025 12:47 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

عن الدراما واللغة العربية

نشر فى : السبت 8 فبراير 2025 - 7:50 م | آخر تحديث : السبت 8 فبراير 2025 - 7:50 م

سعدتُ منذ أيام بتلبية دعوة كريمة من د. أحمد عمّار، مدير مركز اللغة والثقافة العربية بجامعة القاهرة، للحديث فى ندوة بالمركز أدارها أخى وصديقى الناقد إيهاب الملاح، واختار د. عمّار للندوة موضوعًا شيقا هو «الدراما المصرية واللغة العربية»، فى مناسبة الاحتفال بيوم اللغة العربية.
استجبت للدعوة بلا تردد، تقديرا لجهد د. عمار المشهود فى إقامة أنشطة ثقافية مميزة بالمركز، واهتمامًا بموضوع اللقاء، الذى فتح بالنسبة لى مجالًا واسعًا للبحث وللاكتشاف، خاصة فيما يتعلّق بعلاقة الفيلم السينمائى المصرى الروائى الطويل باللغة العربية.
كان لقاء ثريا سعدت به، وربما يكون ملخّص ما ذكرته فى محاضرتى دليلًا جديدًا على علاقة السينما بجوانب الإبداع الدرامى التى سبقتها، فقد ذكرت مثلًا أنه لا يمكن الحديث عن السينما المصرية واللغة العربية، دون الحديث عن فنين راسخين سبقا الفيلم المصرى؛ هما: فن الغناء، وفن المسرح.
تكلمت فى هذا الإطار عن أساطين الغناء المصرى عبده الحامولى ومحمد عثمان، وكلمات الأدوار الشهيرة الخالدة مثل: «عشنا وشفنا سنين» و«كادنى الهوى»، وعن بصمة شاعر كبير مثل إسماعيل صبرى، الذى كان لا يرى مشكلة فى كتابة عامية أقرب إلى الفصحى، ثم دور سلامة حجازى فى مجال المسرح الغنائى، واشتهاره بقصائد مغنّاة مثل: «إن كنتُ فى الجيش أدعى صاحب العلم»، ثم انتقال الراية إلى سيد درويش، الذى قدم أغنيات الطوائف العامية، جنبًا إلى جنب مع نشيد مثل «بلادى بلادى»، الذى كتبه الشيخ المعمم يونس القاضى، وكثير من أدوار سيد درويش مثل: «أنا هويت وانتهيت»، و«ضيّعت مستقبل حياتى»، تستلهم بناء الجملة الفصيحة، وإن نطقت بالعامية.
المسرح والأغنية لم يكونا يعتبران أن المسافة هائلة بين الفصحى والعامية، ولم يتعامل الشعراء مع العامية على أنها لغة أجنبية، واللافت أن بيرم نفسه، وكان شوقى يخاف على الفصحى من أزجال بيرم، بدأ حياته شاعرا يكتب بالفصحى، واشتهرت له فى البداية قصيدة فصيحة معروفة هى «المجلس البلدى»، ولم يمضِ وقت طويل حتى كان شوقى أيضًا يكتب بالعامية لمحمد عبد الوهاب، ويقدم عامية مدهشة قريبة من الفصحى، تؤكد من جديد أن العامية هى ابنة الفصحى الشرعية، وهل ننسى مثلًا رائعته «فى الليل لما خلى»، والتى يقول فيها: «الفجر شقشق ولاح على سواد الخميلة»، فلا تعرف بالضبط حدود الفصحى والعامية فى هذا النظم البديع.
جاءت السينما إلى مصر فى شكل محاولات روائية صامتة أولى، وظهر محمد كريم ممثلًا فى فيلم «شرف البدوى» الذى صوِّر فى مصر من إنتاج إيطالى، وظهرت مهنة اسمها «المفهماتى»، وهو مصرى يسرد الفيلم الأجنبى لجمهور لا يقرأ العناوين، ويضيف ما يشاء، فيطلق على البطل الكاوبوى مثلا لقب «شجيع السيما!».
أهمية هذا الدور فى السينما الصامتة أنه كان من المحاولات الأولى لتمصير الفن نفسه، وإدراك أصحاب دور العرض أهمية أن تكون هناك أجواء مصرية محلية خالصة.
عندما نطقت السينما، كانت الأغنية رافدًا جاهزا بمزيجها المرن بين الفصحى والعامية، وكان من اللافت أن تجتذب السينما كتّاب الأغانى مثل أحمد رامى وبديع خيرى وبيرم التونسى لكتابة حوار الأفلام، وهؤلاء كانوا متمكنين من الفصحى والعامية معا، ويمتلكون إيقاعًا موسيقيّا فى كتابة الحوار، لأنهم يمتلكون هذه الموسيقى أصلًا فى كتابة الأغانى.
ارتبط إنتاج أول فيلم مصرى طويل بمناخ الاستقلال والتمصير، واكتشاف الهوية المصرية والعربية، وكان الفيلم المصرى بأغانيه وحكاياته وتعبيراته الفصيحة والعامية، سفيرًا للثقافة المصرية عمومًا، وفى دول المغرب العربى، كان عرض الفيلم المصرى مزعجا للاحتلال الفرنسى، بسبب تأثيره، وحضور اللغة العربية فيه، وليس أدل على هذا التأثير من الحكاية الشهيرة لتسمية نادى الوداد المغربى الشهير، ارتباطا واستلهاما من اسم فيلم «وداد» لأم كلثوم، والذى عرض فى تلك الفترة.
ومع دخول يوسف وهبى بأعماله الميلودرامية، وخطبه الفصيحة التى اعتبرها لائقة بالمواقف الخطيرة، وجدت الفصحى طريقها للأفلام المصرية، جنبا إلى جنب مع عامية ظريفة تليق بالكوميديا، وعكست عناوين الأفلام هذه الفصحى كما فى أفلام شهيرة؛ مثل: «غرام وانتقام» و«العزيمة» و«ليت الشباب» و«كدت أهدم بيتى»، جنبا إلى جنب مع عناوين عامية مثل: «ما تقولش لحد»، و«عايزة أتجوز».
فى الفيلم الواحد مثل «لست ملاكا» كنت تجد أغنية عامية مثل «عمرى ما هنسى يوم الاتنين» جنبا إلى جنب مع قصيدة شهيرة مثل «خطايا» لكامل الشناوى، أما مسألة السخرية من شخصية المعلّم الذى يتحدث الفصحى كما لعبها بعبقرية كل من عبدالفتاح القصرى، ثم محمد رضا، فلم تكن سخرية من اللغة العربية الفصحى، وإنما سخرية من الجهلاء المتعالمين، بينما لعب عبدالمنعم إبراهيم نموذجا كوميديا شهيرا هو الأزهرى الذى يتحدث الفصحى فى كل مكان وموقف، ولم يكن ذلك أيضا سخرية من الفصحى، ولكنه سخرية من نموذج موجود، يصنع مفارقة فى مخاطبة العوام بما لا يعرفون، وكان هذا النموذج حاضرا فى الواقع، وفيه الكثير من التصنّع والادعاء والتعالم أيضا، ولعبه عبدالمنعم إبراهيم بأستاذية، وبتنويعات مختلفة.
كانت هناك محاولات لتقديم فيلم تاريخى بالعامية هو فيلم «واإسلاماه»، وكان فيلم «الناصر صلاح الدين» مزيجًا بين الفصحى والعامية فى مشاهد كثيرة، وظهر فيلم معاصر بلغة فصيحة أقرب إلى الشعر فى تجربة لم تتكرر فى فيلم «المومياء» لشادى عبدالسلام.
هكذا ظلت العامية ابنة الفصحى ورفيقتها فى الدراما عمومًا، وحتى عندما ظهرت عامية الفئات الخاصة، والمصطلحات الجديدة، كما حدث فى أفلام محمد سعد مثلًا، فإننى لم أعتبر ذلك سوى مرآة لتغيرات المجتمع، وبما يشكل فرصة لدراسة أعمق لتغيرات اللغة وتحولاتها، ولتبدّل دلالات معانيها.
اللغة محفوظة فى القواميس والمعاجم، ولكنها أيضًا كائن حى متلّون ومراوغ، وقد عكست الدراما هذين الوجهين، فى كل زمان ومكان.

 

 

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات