وحيدون يحصدون السراب - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الأربعاء 19 فبراير 2025 10:00 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

وحيدون يحصدون السراب

نشر فى : السبت 15 فبراير 2025 - 6:30 م | آخر تحديث : السبت 15 فبراير 2025 - 6:30 م

تتردّد فى المجموعة القصصية «كل ما يجب أن تعرفه عن ش» لأحمد الفخرانى، والصادرة عن دار الشروق، نغمة من مقام الحيرة والاغتراب، أبطاله وحيدون، يعانون مللا مقيما، وجوديا إن شئت، يبحثون عن شىء خارق، ليس أقل من معجزة، وحتى عندما يصلون إلى الجنة، يحصدون السراب، ومعلّقون دومًا بين الأمنيات والنتائج الهزيلة.
لعل مجموعته التى تفرّقت بين اثنتى عشرة قصة، بطلها شخص واحد متعدد الوجوه، يختبر إمكانية ترويض ظروفه، فلا يجنى إلا الفشل، لا يسعفه الخيال، ولا ينصفه الواقع، يصارع أشباحًا، تسكن فى الغالب فى رأسه، لا تهدأ أبدًا، ولا تأخذه إلى شاطئ النجاة.
ولكن المجموعة ليست كئيبة بالمرة، لأنها معشّقة بألوان من الخيال الحر الطازج، ولأن ثمة سخرية كامنة، ناتجة عن مفارقات شتى، ولأن حرفة الحكى عند الفخرانى وفيرة وباذخة ومشوقة، لديه أرانب ملوّنة كثيرة وجميلة تحت القبعات، ونسيج سرده حافل بالتأمل العميق.
بعض الشخصيات تريد أن تكون آلهة، ولكنها تتخبط فى واقعها الخشن، ودومًا توظف اللغة فنيا، وتصنع المجازات عالما واسعا من المعانى، والسرد متماسك مهما طالت الحكاية، ومهما حلّقت الخيالات والأوهام.
ربما يكون التكنيك الأصعب فى المجموعة، وفى كتابات أحمد الفخرانى عمومًا، أن الصراع الأساسى يكون فى داخل الشخصية، الهواجس الداخلية العنيفة هى التى تحرّك أفعال الشخصيات الغريبة، وأمنياتها المستحيلة، والخارج ما هو إلا مرآة لمشاعر معقدة، قد لا تعرفها الشخصيات، فينوب عنها السارد العليم فى التحليل والتشريح، بل ويبدو أحيانا وكأن الشخصيات فى عالم آخر، وأن ما يتم سرده، إنما حدث فى خيالها، أو عبر أوهام متجسدة.
وفى كل الأحوال، يثير هذا الصراع تعاطفًا حقيقيا، وبعض الرثاء، لأن الشخصيات تراجيدية بامتياز، نعرف أنها ستحصد الخيبات، ولكنها لن تكف عن السعى، ولن تتوقف عن الخطأ وسوء التقدير، سواء لإمكانيات الذات، أو لردود فعل الآخرين.
تحمل المجموعة عنوان إحدى قصصها، وترسم هذه القصة بورتريها لشخصية عجيبة يُرمز له بحرف «ش»، الذى يختصر مثلًا كلمة «شخص»، أو أى اسم إنسان يبدأ بحرف الشين.
الرجل يحاول طوال الوقت البحث عن حلقة وصل بالحياة والبشر، بعد أن هاجمته آفة الملل، يبدو ساحرًا، يحصل على الصداقات بسهولة، ولكنه يبترها بنفس السهولة، فيحذف كل عام من يجلبون له الملل، «ليس تافها، لقد جرّب الأفكار العميقة والجديّة، وكلها أرعبته حتى الموت، تركت فيه ندوبا وخسارات، ثم مع الوقت لم يعد يفهم كيف صارت كلها غير صالحة للاستعمال، أو لتفسير ما يحدث». هذا «الشين»، والذى يبدو ساحرًا، يظل بائسا من الداخل، مأزومًا وحائرا ومعلّقا بين السماء والأرض، «مريض اكتئاب. فى نوبات القلق يبكى ويصرخ مناديا على أمه التى لم يعوّضه أحد عن موتها، ستهدّئه لمسة صادقة من أى شخص، لأنه فى القلب ما زال طفلًا، لكنه أبدًا لن يجعل منه صديقًا أبديا، ما إن يستجمع شتات نفسه، حتى يدرك أن الصدق عبء لا يمكن تحمّل تكلفته».
اللعبة هنا فى هذه القصة، وفى قصص المجموعة، أن التفاصيل الواقعية الحية تُستخدم للكشف عن الداخل المؤرق بضجر وجودى عارم، وكأن هناك فجوة داخلية تبتلع طعم الأشياء، وتبث سموم القلق الأبدى، وتجعل الشخصية دائمة الاغتراب، فلا يبقى لهذا السيد «شين» سوى ثلاثة أصدقاء فقط:
«زجاجة خمر مخبأة فى حقيبته، شيشة إلكترونية، وميدالية فريق يوفنتوس».
أزمة الشخصيات إذن كامنة وعميقة، والحكاية الخارجية ليست إلا تعبيرًا عن مأزق داخلى معقد، وواقعية رسم الشخصيات، وتفصيلاتها، ومكانها وزمانها، بل وتسمية بعضها، كل ذلك يعود من جديد ليتحول إلى تعبير مجرّد عن الإنسان الحائر، المنفصل عن محيطه، وإن كان منغمسا فى وقائعه اليومية.
لا تخدعك هذه التفصيلات، لأن جوهر الإنسان الحائر والمحيّر سيظهر وراء الحكاية، وسنرى طريقًا بلا نهاية، لا ينتهى إلى شىء.
من هذه الزاوية الأعمق يمكن أن تفهم انفجار الزبون المفاجئ فى نادل جروبى، بسبب فنجان قهوة، ويمكن أن تصدّق حكاية الرجل الذى انتابته شهوة الكلام، فلم يتوقف عن الثرثرة، وكان أحدا يُملى عليه ما يقوله، ويمكن ألا تُستغرب حكاية رجل يشعر بالضجر، فيهرب إلى صاحبة حساب غامض يحمل اسم «ضى الماس»، وتستطيع أن تقرأ متعاطفا أزمة مفتعلة لساكن الحى السويسرى مع صاحب محل صغير.
بنفس الطريقة يمكن أن ترى حكاية صاحب معطف المعجزات، الذى يحارب التهميش بلا كلل، وأن تفهم ظهور فرج الكفراوى، بطل رواية «المشّاء العظيم»، ليخوض معركة معقّدة مع ابنه، امتداده وغريمه فى نفس الوقت، وأن تستوعب فكرة محو الشر عبر حجر عين الهر، وأن ترى فى الرسام المزيف الذى ينتحل ويقلد الرسوم، عنوانًا على ذات بائسة، تسخر منها ربّات الفنون.
تلك المخذولة من قصة حب، تقرِّر أن تذهب إلى «أى مكان»، فتجد لدهشتها سائقا يؤمن بأن هناك حقا هذا «اللا مكان»، بل إنه يحلم بأن يطير بسيارته، وحتى عندما يصل الإنسان إلى الجنة فإن حيرته وقلقه يطاردانه، ليكتشف أن الججيم الأبدى يعيش أيضًا وراء أسوار اللذات.
اغتراب يقود إلى تجربة، وواقع يأخذنا إلى خيال، ثم نعود بسرابٍ جديد، لا تتوقف المحاولة ولا ننجح فى نفس الوقت، يبدو السرد مثل خط صاعد، ثم سرعان ما يتقوّس وينحنى، ويعود إلى أول نقطة. تنوب عنا الشخصيات فى محاولة ردم تلك الفجوة فى داخلنا، ونكتشف أنها تنويعات على نفس الوجه وأقنعة تخفى ملامح الضجر والملل والوحدة، والشعور أيضًا بالعبث واللا معنى.
تفشل المعجزات فى حل المعادلة، أحدهم يعبث بالشخصيات، مثل ربّات الفنون مع الرسام المزيف، ومثل فتاة جروبى مع الرجل الغاضب، ومثل الكفرواى المتواطئ مع خادمته، ومثل سعيد الهايش مع الرجل الذى حلم بمحو الشر.
هذه الحكايات مؤرقة ومزعجة حقًّا رغم خفّتها الماكرة.

 

 

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات