أرض إسرائيل! - يحيى عبدالله - بوابة الشروق
الخميس 20 فبراير 2025 10:03 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

أرض إسرائيل!

نشر فى : الثلاثاء 18 فبراير 2025 - 6:25 م | آخر تحديث : الثلاثاء 18 فبراير 2025 - 6:25 م

 

لماذا سميت «أرض الميعاد» المزعومة، باسم إسرائيل -يعقوب- حصريًا، وليس باسم إبراهيم، الذى قطع الرب معه عهدًا؟: «فى ذلك اليوم قطع الرب مع أبرام ميثاقًا»، قائلًا: «لنسلك أعطى هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات» ( سفر التكوين، 15، 18).

لماذا لم تسمى باسم إسحاق، ابن إبراهيم، الذى نصت التوراة على أنه الوريث الحصرى لإبراهيم من دون سائر أبنائه الآخرين، وعلى رأسهم إسماعيل؟: «ورأت سارة ابن هاجر المصرية الذى ولدته لإبراهيم يمزح، فقالت لإبراهيم: اطرد هذه الجارية وابنها، لأن ابن هذه الجارية لا يرث مع ابنى إسحاق» (سفر التكوين، 21، 9ـ10). ولماذا لم تسمَ باسم موسى، مؤسس الديانة الموسوية، الذى أمره الرب باحتلال أرض كنعان وطرد أهلها منها؟: «وكلم الرب موسى فى عربات موآب على أردن أريحا»، قائلًا: «كلم بنى إسرائيل وقل لهم إنكم عابرون الأردن (نهر الأردن) إلى أرض كنعان، فتطردون كل سكان الأرض من أمامكم…». (سفر العدد، 33، 50ـ 52).

ما الصفات التى أهَّلت إسرائيل/يعقوب حتى تنسب الأرض إليه؟ وهل أقام بهذه الأرض إقامة دائمة؟ وما قيمتها لدى إسرائيل، نفسه، ولدى أبنائه، أسباط بنى إسرائيل؟

تتعدد كُنيات يعقوب فى المصادر اليهودية، فهو «أبونا يعقوب»، و«إسرائيل»، و«يشورون»، و«مجْتَبَى الآباء». يقول الحاخام، أورى شرقى، إن ليعقوب هوية مزدوجة: هوية «يعقوبية»، وهوية «إسرائيلية». ورغم أن ملاك الرب غيَّر اسمه من يعقوب إلى إسرائيل: «فقال (الملاك ليعقوب): لا يُدْعَى اسمك فى ما بعد يعقوب بل إسرائيل» (سفر التكوين، 32، 29) فإن الاسم يعقوب يرد فى مواضع عديدة بالنص التوراتى بعد عملية التغيير. تنسب التوراة إليه صفة الأمانة: «تصنع الأمانة ليعقوب والرأفة لإبراهيم، اللتين حلفتَ لآبائنا منذ أيام القدم» (سفر ميخا، 7، 20) أو كما يقول تفسير «يلقوط شمعونى»: «اختص الله كل واحد من الأبرار بخصيصة معينة. اختص إبراهيم بالختان، واختص إسحاق بالدعاء، واختص يعقوب بالأمانة كما جاء فى النص التوراتى تصنع الأمانة ليعقوب».

لكن هذه الصفة، خاصةً، تتعارض مع سلوك يعقوب، كما وصفته التوراة، ذاتها. إذ يقول الحاخام، باروخ إفراتى، إن التوراة تقدم يعقوب بوصفه إنسانًا داهيةً، وخبيثًا، وماكرًا، وكاذبًا، حيث أمسك، وهو ما يزال بعد فى بطن أمه، بعقب أخيه التوأم، عيساف (عيسو فى ترجمة الكتاب المقدس) كى يعوقه عن النزول أولًا من بطن أمه فيكونَ البِكْر (يحظى الابن البكر فى اليهودية بمكانة خاصة. إذ يرث ضعف إخوته، على سبيل المثال لا الحصر)، وعندما كبر الأخوان، اشترى يعقوب حق البكورية من أخيه لقاء ثمن بخس، وهو ما عدَّه عيساف استغلالًا وانتهازية وكذبًا: «فقال (إسحاق ردًا على مطالبة عيساف له بأن يباركه مثلما بارك يعقوب): قد جاء أخوك بمكر وأخذ بركتك. فقال (عيساف): ألا إن اسمه دُعى يعقوب، فقد تعقبنى الآن مرتين! أخذ بكوريتى، وهو ذا الآن قد أخذ بَرَكَتى». ثم قال: «أَمَا أبقيتَ لى بركة؟ فأجاب إسحاق وقال لعيسو: «إنى قد جعلته سيدًا لك، ودفعت إليه جميع إخوته (ليس له سوى أخ واحد!) عبيدًا».

هكذا، تسلط يعقوب، بالمكر والخديعة، على أخيه، وصادر الامتيازات، كلها، بما فيها، الحق فى الأرض الموعودة، المزعومة، أيضًا. فإذا كان أحد آباء اليهود يمارس الخداع مع أخيه، طبقًا للنص التوراتى، أفلا يمارسه مع الغرباء؟ إنه، لعمرى، تأصيل لسلوك يقوم على الاحتيال، والمكر، والخداع بين جماعة بنى إسرائيل. لا يقتصر الأمر على الاحتيال فقط، وإنما مارس يعقوب الكذب، أيضًا، على أبيه، إسحاق، الذى أصابه العمى فى أيامه الأخيرة، حين زعم أنه عيساف، حتى إن النبى إرميا حين أراد أن يعبر عن أسباب الفساد الذى تفشى بين بنى إسرائيل، شبهها، وإن تلميحًا، بصفتى الكذب والخداع لدى يعقوب: «احترزوا كلُ واحد من صاحبه، وعلى كل أخ لا تتكلوا، لأن كل أخ يعقب عقبًا، وكل صاحب يسعى فى الوشاية».

• • •

هذا من ناحية الصفات. أما فيما يخص الإقامة بالأرض، التى سميت باسمه، فإننا نكتشف، من خلال النص التوراتى، أن يعقوب/إسرائيل كان دائم التنقل والارتحال. والسؤال المتوجب: «كيف يُستساغ أن يهجر شخص أرضًا (وعده) الرب بها؟ المنطق يقول، إن عليه أن يتشبث بها. أن يعض عليها بالنواجذ، كما يقال، لا أن يفرط فيها، هكذا بسهولة».

فى الحقيقة، نحن أمام شخص فى حالة اغتراب اختيارى عن هذه الأرض. لم يمكث يعقوب/إسرائيل بأرضه، المزعومة، سوى بضع سنوات من عمره، حتى إنه أنجب كل أبنائه -الأسباط الاثنى عشر- خارجها: «وكان بنو يعقوب اثنيْ عشر(...) هؤلاء بنو يعقوب الذين ولدوا له فى فدَّان أرام» (مدينة حاران ببلاد ما بين النهرين. تقع حاليًا فى محافظة أورفة جنوب شرقى تركيا عند منبع نهر البليخ أحد روافد نهر الفرات).

• • •

كان أول ارتحال ليعقوب/إسرائيل، إلى حاران بجنوب شرق تركيا، حيث يعيش خاله، لابان، حيث استشعرت أمه، رفقه، أن أخاه ينوى قتله، فنصحته بالذهاب إلى هناك، وبالزواج، أيضًا، من إحدى بنات خاله. مكث يعقوب/إسرائيل عشرين عامًا، خارج أرضه المزعومة، لدى خاله، تزوج خلالها من ابنتيه، ليئة وراحيل، ومن جاريتيهما، زلفة وبلهة، وأنجب أحد عشر ابنًا وبنتًا واحدة من الأربعة، خلال إقامته فى حاران، وأنجب الابن، الذكر، الثانى عشر، بنيامين، بعد عودته إلى أرض كنعان.

فإذا أضفنا إلى العشرين عامًا التى قضاها يعقوب/إسرائيل خارج أرضه المزعومة أربعة عشر عامًا أخرى، قضاها فى دراسة التوراة، وهو فى طريقه إلى حاران، كما يقول التلمود البابلى (مبحث مجيلا، ص 16)- لا نعلم أين بالضبط، ولم تكن التوراة قد نزلت بعد على موسى!- لصار مجموع ما قضاه خارج أرضه المزعومة 34 عامًا.

ومن المثير، واللافت للنظر، أن يعقوب/إسرائيل حين راكم ثروة وقوة فى حاران وأراد العودة إلى حيث أسرته، لم يشر النص التوراتى إلى أنه عائد إلى أرضه المزعومة، وإنما إلى أرض كنعان: «فقام يعقوب وحمل أولاده ونساءه على الجمال، وساق كل مواشيه وجميع مقتناه الذى كان قد اقتنى: مواشى اقتنائه التى اقتنى فى فدَّان أَرام، ليجىء إلى إسحاق أبيه إلى أرض كنعان» (سفر التكوين 31، 17ـ 19).

ولمَّا بلغ هو وعشيرته أرض كنعان، اشترى. نعم. اشترى، كما يقول النص التوراتى، قطعة أرض من حاكم مدينة نابلس (شخيم بالعبرية/شكيم فى ترجمة الكتاب المقدس) لينصب فيها خيمته: «ثم أتى يعقوب سالمًا إلى مدينة شكيم التى فى أرض كنعان، حين جاء من فدان أرام. ونزل أمام المدينة. وابتاع قطعة الحقل التى نصب فيها خيمته من يد بنى حمور أبى شكيم بمئة قسيطة…». (سفر التكوين، 33، 18 ـ 20).

كيف يشترى قطعة أرض والأرض «أرضه»، أصلًا، كما يُزعم؟! فى الحقيقة، هناك الكثير من علامات التعجب والاستفهام. وإذا كانت هجرة يعقوب/إسرائيل إلى حاران هجرة فردية، فإن هجرته إلى مصر هجرة جماعية، هاجر فيها كل أبنائه وأحفاده إلى مصر، واستوطنوها، تاركين أرض إسرائيل، أبيهم، المزعومة، التى يسميها سفر التكوين باسمها الحقيقى، أرض كنعان: "فقام يعقوب من بئر سبع ، وحمل بنو إسرائيل يعقوب أباهم وأولادهم ونساءهم فى العجلات التى أرسل فرعون لحمله. وأخذوا مواشيهم ومقتناهم الذى اقتنوا فى أرض كنعان، وجاءوا إلى مصر. يعقوب وكل نسله معه. بنوه وبنو بنيه معه وبناته (ليس له سوى بنت واحدة!) وبنات بنيه وكل نسله، جاء بهم معه إلى مصر (سفر التكوين، 46، 5ـ 7). وفأتى يوسف وأخبر فرعون، وقال: أبى وإخوتى وغنمهم وبقرهم وكل ما لهم جاءوا من أرض كنعان (وليس من أرض أبيه، إسرائيل)، وهو ذا هم فى أرض جاسان -يُقال إنها محافظة الشرقية- (سفر التكوين، 47، 1ـ 2).

أين هى «أرض إسرائيل»، إذًا، التى لم يَدَّع لا إسرائيل، نفسه، ولا أحد من أبنائه، أنها أرضهم. إن ما يُسَمَّى «أرض إسرائيل» أكذوبة كبرى، ومفهوم اخترعه البروتستانتيون الإنجيليون واليهود الصهاينة، كما يقول المؤرخ الإسرائيلى، شلومو زَند، فى كتابه: «اختراع أرض إسرائيل»، بوصفه مفهومًا جيوسياسيًا فى القرن التاسع عشر، وأن هذا الاختراع هو ما شَرْعَن استعمار فلسطين وأفضى إلى إقامة دولة إسرائيل.

يحيى عبدالله أستاذ الدراسات الإسرائيلية بجامعة المنصورة
التعليقات