صحيح، أن ما طرحه الرئيس الأمريكى، دونالد ترامب، ويلح عليه بصياغات مختلفة ويسعى جاهدا ويضغط من أجل تحقيقه بشأن تهجير سكان قطاع غزة، أو بالأحرى طردهم من أرضهم، طرحٌ مغرق فى الخيال، وغير واقعى، بل وضرب من الجنون، وغير قابل للتنفيذ، لأسباب عديدة، أهمها أنه مرفوض فلسطينيا، وعربيا، وحتى دوليا، إلّا أن الأسوأ دائما هو ما يحدث. هل كان يصدق أحد أن يصبح وعد بلفور حقيقة واقعة؟ هل كان يصدق أحد أن تسيطر إسرائيل على نحو 80% من مساحة فلسطين التاريخية بعد أن خصص لها قرار التقسيم، الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة فى 29 نوفمبر 1947م، ما نسبته 57.7 % منها؟
من هنا يقتضينا الواجب أخذ ما يطرحه ترامب على محمل الجد. لماذا؟ لأن الرجل، ببساطة، واقعٌ تحت تأثير الهوس الصهيونى بفكرة تغييب الشعب الفلسطينى كله، وليس سكان غزة فقط، والتخلص مرة واحدة وإلى الأبد من القضية الفلسطينية، سواء من جانب اليمين الإسرائيلى، بزعامة نتنياهو، الذى غرس الفكرة فى رأسه، خلال زيارته الأخيرة للولايات المتحدة الأمريكية، أم من جانب صهره، جاريد كوشنر، عرَّاب «اتفاقيات أبراهام»، وصاحب فكرة التخلص من سكان غزة، والتعامل مع القطاع بوصفه صفقة عقارية.
• • •
ما من شك فى أن الربح المادى حاضرٌ فى ذهن ترامب، ومبعوثه للمنطقة، ستيف ويتكوف، وصهره كوشنر، بوصفهم «رجال أعمال»، يفكرون بمنطق الصفقات، لكن لا ينبغى تجاهل البعد الأيديولوجى فى المسألة. إذ ينتمى ترامب إلى اليمين الأمريكى المحافظ، وقاعدته الانتخابية، وجُل حاشيته فى الإدارة الأمريكية، من الإنجليكانيين، المتحمسين لإقامة إسرائيل على ما يُسمّى «كامل أرض إسرائيل». وإذا دققنا النظر فى الإجراءات العملية، التى اتخذها خلال فترة ولايته الأولى، لوجدنا بُعدا صهيونيا واضحا بها. فقد نقل السفارة الأمريكية فى إسرائيل، خلال ولايته الأولى، من تل أبيب إلى القدس، واعترف بالقدس، كلها، بما فيها القدس الشرقية، التى تعد أرضا محتلة، طبقا للقانون الدولى، عاصمة موحَّدة لإسرائيل، واعترف بضم إسرائيل لهضبة الجولان، وبارك تمدد الاستيطان الإسرائيلى فى الضفة الغربية المحتلة، وأطلق ما يُسمَّى بـ«صفقة القرن»، التى تقضى على فكرة الدولة الفلسطينية المتواصلة جغرافيا وذات السيادة، وسعى لدمج إسرائيل فى المنطقة عبر ما يُسمَّى بـ«اتفاقيات أبراهام»، وصرح بأن إسرائيل دولة صغيرة المساحة، بما يؤشر إلى أن توسيع رقعتها أمر غير مستبعد.
جرى كل هذا خلال فترة ولايته الأولى (2017ـ 2021م). وما إن تسلم مهام الرئاسة فى ولايته الثانية (2025م ـ 2029)، حتى أصدر بعض الأوامر التنفيذية، التى تتسق مع التوجهات الصهيونية. فقد ألغى عقوبات فرضتها إدارة بايدن على مستوطنين مارسوا أعمالا إرهابية ضد فلسطينيين فى الضفة الغربية المحتلة، وقال ردا على سؤال بشأن ضم إسرائيل للضفة الغربية: «الأمر سينجح»، وفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، ورئيسها، كريم خان، بسبب إصدارها أوامر اعتقال بحق رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع المقال، يوآف جالانت، وصنَّف جماعة «أنصار الله» اليمنية، التى ساندت غزة خلال الحرب، منظمة إرهابية، واتخذ تدابير إضافية لمكافحة ما يُسمَّى بمعاداة السامية ـ أى حظر أى نشاط احتجاجى ضد السياسة الإسرائيلية ـ وأمر بمعالجة ما سمَّاه «الأفعال الفاضحة» لجنوب إفريقيا، بسبب رفعها دعوى ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، وانسحب من المنظمة الدولية لحقوق الإنسان بسبب إصدارها تقارير تدين إسرائيل وتتهمها بارتكاب جرائم حرب، ورفع الحظر الذى فرضته إدارة بايدن على بعض أنواع الأسلحة إلى إسرائيل، وعين مسئولين أمريكيين ذوى ميول صهيونية واضحة، ضمن إدارته، من أبرزهم سفير أمريكا لدى إسرائيل، مايك هكابى، الذى قال إنه لا يوجد شىء اسمه الضفة الغربية، وإنما «يهودا والسامرة»، وإنه لا يوجد شعب اسمه الشعب الفلسطينى، وأعاد التذكير بأن إسرائيل دولة صغيرة، مثل القلم على طاولة ضخمة.
• • •
كثيرة هى القرائن، التى تدل على أن لدى ترمب وأركان إدارته توجها جديدا فيما يتعلق بتصفية القضية الفلسطينية، وتوسيع حدود الدولة الإسرائيلية، ودمجها بالقوة فى المنطقة، بالضبط مثلما كرر نتنياهو، غير مرة: «سنفرض السلام بالقوة». يقول الأديب، والمؤرخ الإسرائيلى، وسفير إسرائيل السابق لدى واشنطن، مايكل أورن، إن تصريحات ترامب، فيما يخص غزة، تكشف عن «تغيير فى السياسة الأمريكية تجاه النزاع»، مشيرا إلى أن الرئيس بايدن رأى على غرار سلفه أوباما، أن غياب دولة فلسطينية هو جوهر النزاع، والآن، يغير ترامب بإجراء دراماتيكى واحد قواعد اللعبة. هو يدرك أن غزة ستظل مصدرا لـ (العنف) والحروب ما لم يُنزع سلاحها وما لم يتم إعمارها، ويدرك أن أحدا من هذين الهدفين لن يتحقق طالما ظلت «حماس» تسيطر على القطاع. إن ما يطرحه ترامب ليس خاطرا عابرا مر بخياله، أو مجرد نزوة اعترته، وإنما لديه «خطة شاملة للشرق الأوسط، بما فى ذلك غزة»، كما يقول، رون بن يشاى.
• • •
تحظى خطة ترامب بتأييد شبه جارف داخل إسرائيل، فقد أظهر استطلاع رأى أجراه الموقع الإخبارى للقناة الإسرائيلية الرابعة عشرة أن 76% من الشعب الإسرائيلى يدعمونها. وناهينا عن دعم الأحزاب اليمينية المشاركة فى الائتلاف الحكومى لها ـ «الليكود»، و«الصهيونية الدينية»، و«شاس» ـ فقد رحب بها حزبان مهمان من أحزاب المعارضة ـ «إسرائيل بيتنا»، بزعامة أفيجدور ليبرمان، وحزب «المعسكر الرسمى»، بزعامة بنى جانتس، فضلاً عن حزب «قوة يهودية» بزعامة إيتمار بن جفير، الذى انسحب مؤخرا من الائتلاف الحكومى بسبب اتفاق تبادل الأسرى ووقف إطلاق النار فى غزة.
عبّر رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، عن دعمه الواضح لخطة ترامب، إذ قال فى حديث لقناة «فوكس نيوز»، الأمريكية: «إنها أول فكرة جيدة أسمعها. فكرة استثنائية. أن تتيح للغزيين المغادرة ـ ما السيئ فى هذا؟»؛ وأصدر وزير الدفاع الإسرائيلى، يسرائيل كاتس، توجيهاته للجيش بإعداد خطة لتمكين سكان غزة من المغادرة، قائلا: «أحيى الرئيس ترامب على خطته الجريئة، التى يمكنها أن تتيح لقطاع عريض من سكان غزة المغادرة إلى أماكن أخرى فى العالم. يجب إتاحة حرية الخروج والهجرة لسكان غزة كما هو متبع فى كل مكان بالعالم. ستتضمن الخطة إمكانيات الخروج من المعابر البرية وترتيبات خاصة أيضا للخروج عبر البحر والجو».
يستند المنطق الإسرائيلى فى الترحيب البالغ بالخطة إلى أطماع فى أراضى الدول المجاورة، خاصة مصر والأردن والسعودية، عبَّر عنها الجنرال احتياط، جيورا آيلاند، صاحب خطة حصار وتجويع الغزيين فى شمال القطاع، ودفعهم إلى المغادرة بقوله: «إذا نظرنا حولنا سنرى من جهة الشرق الأردن، التى معظمها أرض صحراوية غير مأهولة، ومن جهة الجنوب الغربى سيناء، وهى صحراء أكبر ثلاث مرات من مساحة إسرائيل، وأكبر 17 مرة من مساحة غزة، يعيش فيها ثلث عدد سكان غزة، 600 ألف نسمة فقط، وجنوبا من إيلات ثمة صحراء لا متناهية اسمها السعودية. إذا كان كل العالم يريد مساعدة الغزيين البؤساء بهذا الشكل الكبير فإن الاتجاه الذى يشير إليه ترامب هو الاتجاه الصحيح».
• • •
لم ينشأ الموقف الإسرائيلى من فراغ. إذ إن الترانسفير عقيدة صهيونية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. وقد أشار العلاَّمة، المسيرى، إلى أن الصهيونية، فى جوهرها، «استعمار استيطانى إحلالى». لقد كتب مؤسس الصهيونية، تيودور هرتسل، فى مذكراته: «علينا أن نستولى على الملكيات (الفلسطينية) الخاصة فى الأراضى التى ستُخصّص لنا، وسنسعى إلى تهجير السكان المعدمين عبر الحدود»؛ وسار على دربه، أول رئيس وزراء لإسرائيل، ديفيد بن جوريون، الذى قال خلال اجتماع للوكالة اليهودية عام 1938م: «أنا أحبذ الترانسفير بالقوة، ولا أجد فى ذلك ما يتعارض مع الأخلاق».
تُرجمت هذه التصريحات إلى ممارسات فعلية، إذ جرى طرد ما يقرب من 700 ألف فلسطينى وفلسطينية خلال حرب 1948م، من ديارهم، بالقوة، باعتراف مؤرخين إسرائيليين، من بينهم، إيلان بابيه، ونحو 300 ألف آخرين من الضفة الغربية إلى قطاع غزة خلال حرب يونيو 1967م.
نحن أمام عقيدة راسخة، وأمام سعى دءوب، ومتصل لتطبيقها بالقوة، وأمام متغير جديد فى السياسة الأمريكية، يتماهى مع فكرة الترانسفير، ويدعمها بقوة. قد يكون من المستحيل إخراج الفكرة إلى حيز التنفيذ، كما يقول كثيرون، لكن طرحها من جانب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، الواقع تحت تأثير اللوبى الصهيونى والإنجليكانى، يبعث على القلق.