روحنا الشعبى فى «السقا مات»! - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الأحد 9 مارس 2025 11:18 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

روحنا الشعبى فى «السقا مات»!

نشر فى : السبت 1 مارس 2025 - 7:15 م | آخر تحديث : السبت 1 مارس 2025 - 7:15 م

(1)
أسعدنى للغاية صدور طبعة جديدة من رواية الأديب الراحل يوسف السباعى «السقا مات»، عن دار ديوان للنشر والتوزيع، وقد أعلنت الدار عن حصولها على حقوق نشر كامل أعمال الكاتب الراحل الذى ستصبح أعماله متاحة للجميع بعد ثلاث سنوات فقط (اغتيل يوسف السباعى فى فبراير 1978).
ما يهمنى هنا، ما أثاره صدور هذه الطبعة الجديدة من الرواية، من استعادة ذكريات وحنين قراءتها للمرة الأولى (قرأتها سنة 1994 فى طبعة مكتبة الأسرة، سقى الله أيامها بالخير كل الخير) ومن حينها صارت من أحب الروايات التى قرأتها مبكرًا إلى قلبى، بعالمها المصرى والشعبى الخالص، بحسها الإنسانى الرهيف والشفاف، بغوصها الحميم فى نفوس الشخصيات وتحليلها بمنتهى البراعة والاقتدار، كما جسده السرد والحوار.
أذكر جيدًا غلافها الأسود الرائع بألوانه الهادئة الموحية بالأسى والفقر والغموض وبشخصية السقا الذى يحمل قربة الماء العذب على ظهره وينحنى كى يفرغ حمولته فى أوانى المياه المستخدمة للشرب فى ذلك الوقت (كانت بريشة الفنان جمال قطب)، ولا أنسى أننى حين شرعت فى قراءتها لم أتوقف حتى أنهيتها فى ليلة واحدة، رغم عدد صفحاتها الذى جاوز الـ350 صفحة!
(2)
هى فى ظنى أفضل ما كتب المرحوم يوسف السباعى على الإطلاق، ولو حافظ على الإيقاع والحس ذاته فى باقى أعماله لكان استحق أن يكون فى الطبقة الأولى من روائيى زمانه! تأكدت من صدق هذا الحدس (إن جاز التعبير) عندما قرأت ما كتبه فيما بعد أستاذى الدكتور محمد بدوى وصديقى الناقد القدير محمود عبد الشكور. ثمة إجماع بأن «السقا مات» هى فعلًا أفضل ما كتب السباعى، على غزارة إنتاجه، والإلحاح الكبير للدفع به إلى الصدارة، فى وجود الأساتذة العمالقة الكبار نجيب محفوظ ويحيى حقى ويوسف إدريس وفتحى غانم وسعد مكاوى!!
لعل سر جمال هذه الرواية تلك البساطة الآسرة والقدرة الفذة على سحب قارئها بكل نعومة وجمال إلى عالمها «الشعبى» الأصيل، شخوصها مصرية مائة فى المائة، شخوص حية من لحم ودم تنفعل معها وتتأثر بها وتشاركها لحظات السعادة المختلسة، وتغرق حتى النخاع فى الاستعبار والتأسى على حال الدنيا الذى لا يبقى على حال، والأمانى التى لا تُنال، والبشر يجرون فى نهر الحياة منذ الميلاد إلى قدرهم المحتوم!
ورغم أجواء الرواية القاتمة، فإنها لم تخل من الحس الفكاهى الساخر، وما عُرف به السباعى من التعليق المرح على الأحداث، ومخاطبة القارئ الضمنى الذى يبرز فى معظم أعماله.
وقد قدم المخرج الراحل الكبير صلاح أبو سيف «السقا مات» فى فيلمٍ متميز بالاسم نفسه، يعده كثيرون واحدًا من كلاسيكيات السينما المصرية، وكتب عنه عبد الشكور واحدًا من أعمق وأهم القراءات التى قدمت له منذ عرضه الأول وحتى وقتنا هذا.
(3)
أعتبرها من أهم وأفضل الروايات المصرية فى القرن العشرين، وأفضل أعمال يوسف السباعى على الإطلاق، وليس من بين كل إنتاج يوسف السباعى ما يقترب من بنائها و«حبكتها» ومغزاها الفلسفى العميق، لدرجة أن البعض يزعم أنها بالأساس رواية كتبها والده المترجم والأديب الراحل محمد السباعى!
لكن الناقد الدكتور محمد بدوى يفند هذا الادعاء بقوله «لقد شاع فى بعض الأوساط أن السباعى لم يؤلف هذه الرواية بل وجدها فى أوراق أبيه، فنشرها. وهى دعوى لا دليل عليها، فمن الواضح أن السباعى [التفت] إلى هذا العالم بعد نشر نجيب محفوظ لروايته «زقاق المدق» كما تشى مقدمته للرواية. كما أن لغتها تختلف عن لغة أبيه، وتتجاوب مع نصوصٍ أخرى له. فضلا عن أن هذا العالم طرقه السباعى فى كتابٍ سردى هو «بين أبو الريش وجنينة ناميش» (1951) ومقارنة عالم الطفل فى «السقا مات» بقصص هذا الكتاب تؤكد معرفة السباعى بتفاصيله الدقيقة.
رواية «السقا مات» نسيج مستقل تمامًا عن كل أعمال السباعى المفرطة فى رومانسيتها ومباشرتها، إن جاز التعبير، فى «السقا مات» سيبتعد السباعى كثيرًا عن هذه الروح الرومانسية الزاعقة، ليقدم عملًا واقعيا فريدًا موضوعه الأساسى «الموت»، وإن كانت الرواية بحذافيرها قطعة نابضة بالحياة!
وظف السباعى كل خبراته وتأثيرات نشأته فى واحدٍ من أعرق أحياء مصر الشعبية، فى هذه الرواية. أبدع أيما إبداع فى خلق بيئتها الشعبية الخالصة والصادقة، وأبدع فى رسم أبطالها جميعًا بلا استثناء. وقد هيأ لها ذلك كله؛ أى الفضاء المكانى والزمانى والشخوص والحبكة الممتازة، هذه الحالة الفريدة التى حققتها الرواية، وجعلتها من أفضل رواياتنا فى القرن العشرين.
(4)
إن أجمل ما فى الرواية أنها ناقشت قضية فلسفية معقدة من خلال شخصيات «شعبية» بسيطة، ونجحت فى أن تقنعنا بذلك، وهذه معادلة صعبة جدًا حققتها أعمال عالمية قليلة للغاية؛ كـ«العجوز والبحر» مثلًا.. فالرواية لا تنتمى إلى عالم رومانسى، ولكنها رواية واقعية.
ستظل «السقا مات» عندى، وعند كثيرين من محبى الأدب والرواية، واحدة من أجمل الروايات المصرية والعربية فى القرن العشرين.