قبل أربع سنوات شهدت دولة النرويج هجومين متزامنين، دبرتهما جماعة أصولية يقودها شخص اسمه «أندريس بريفيك»، وهو نرويجى الأصل والجنسية ومسيحى الديانة. الهجوم الأول شن ضد مبانٍ حكومية بالعاصمة أوسلو فى صورة سيارة مفخخة وضعت قباله مبنى مجلس الوزراء، والهجوم الثانى استهدف مخيما لشباب حزب العمل الحاكم فى جزيرة أوتايا المجاورة للعاصمة. نتج عن تفجير المبانى الحكومية مقتل 11 شخصا، وإصابة العشرات. وبعد التفجير الأول بساعتين انتقل القاتل إلى جزيرة أوتايا متنكرا فى زى شرطى نرويجى وأطلق النار عشوائيا وقتل 65 شخصا، وأصاب أكثر من مائة من الشباب المشارك فى المخيم الصيفى للحزب الحاكم.
ألقى القبض على أندريس بريفيك وحوكم بتهم الأرهاب والقتل العمد، واستغرقت تسعة أشهر، ثم صدر حكم بسجنه 21 عاما.
منفذ الهجوم اعترف أنه مسيحى متدين، وله موقع إلكترونى ينشر فيها مواد مناهضة للأجانب وللإسلام ولسياسات الهجرة ولسياسات الحكومة النرويجية تجاه هذه الملفات. نشر بريفيك بيانا من 1500 كلمة عرف نفسه فيه بأنه «صليبى مسيحى»، وأنه يفعل ما أمره به الرب.
•••
لم يخرج أحد داخل النرويج ولا خارجها ليدين «الإرهاب المسيحى»، وهذا هو الصواب هنا. أقر الجميع أن ما وقع هو عمل فردى وجريمة قتل عمد، وحوكم القاتل ونال جزاءه على جريمته.
وتحدث يوم الثلاثاء الماضى لراديو البى بى سى «جينس ستولتنبرج» سكرتير عام حلف الناتو، ورئيس الوزراء النرويجى السابق الذى شهد سنوات حكمه جريمة أوسلو. وكان ستولتنبرج رئيس حزب العمال الحاكم الذى قتل أندريس بريفيك 65 من شبابه. تحدث ستولتنبرج مؤكدا أن ما شهدته باريس من جريمة لا يجب ربطها بأى صورة من الصور بعقيدة دينية يؤمن بها ما يقرب من مليار ونصف من البشر. وحاولت المذيعة أن تأخذه لجانب أن هناك أيديولوجيات تخرج بعض الأفكار التى تسهل من اقتراف الجرائم الارهابية، ويمكن أن يستشهد بها بعض الإرهابيين فى حالات مختلفة. وكان رد رئيس وزراء النرويج السابق حاسما، قائلا بهذا المعنى هناك تطرف مسيحى، فأندريس بريفيك أكد أنه قام بما قام به فى النرويج عندما كنت رئيسا للوزراء بسبب معتقداته المسيحية، فهل حكمنا على المسيحية بما نتهم به الإسلام اليوم.
•••
ما قام به الفرنسيان شريف وسعيد كواشى وما قام به الفرنسى أميدى كوليبالى يعد جرائم واضحة وعملا خسيسا ضد أبرياء عزل. لكن أن يتم التعامل مع هذه الجريمة بأكثر من كونها جريمة، مكان الحكم فيها ساحات القضاء، يضر بجميع الأطراف داخل وخارج فرنسا. قضايا مثل حرية التعبير عن الرأى، وقضية حرية المعتقدات الدينية، وقضية الهجوم على الرموز الدينية والمقدسة، تخرج بجريمة القتل فى باريس إلى سجالات ونقاشات وجدل لا يخدم أيا من أطراف النقاش. ودائما فى هذه القضايا ليس هناك أبيض ناصع ولا هناك أسود قاتم! من الطبيعى أن يدعو الجميع إلى إطلاق الحريات وممارسة الجميع حرية التعبير عن الرأى بأى طرق يرونها مناسبة. المدرسة الفكرية السائدة تدعو لحرية الانتقاد وحرية السخرية كحق أصيل للبشر فى عصرنا الحالى، وهذا بالطبع مفهوم ومبرر ونوافق عليه. إلا أن هناك مدارس فكرية أخرى تعتقد بضرورة وجود حدود للانتقاد والحريات بحيث لا تستغل لإطلاق «دعوات للكراهية» أو «التحريض على العنف والكراهية» ضد الآخرين.
دول مختلفة فى مشارق الأرض ومغاربها تحدد وتقنن حريات التعبير عن الرأى تحت دعوات مختلفة لأهداف متنوعة. الصين العملاق الصاعد فى شرق آسيا لا تتساهل فيما يتعلق بالحريات السياسية الأساسية، وعلى رأسها حرية التعبير، وكذلك الحال فى جزيرة كوبا فى البحر الكاريبى أو كوريا الشمالية. إسرائيل والسعودية وأغلب دول الشرق الأوسط تضع حدودا قانونية تمنع وتجرم انتقاد سياسات معينة أو تجرم التشكيك فى حوادث تاريخية محددة. ولا يستثنى وضع هذه الحدود دول غرب أوروبا أو أمريكا الشمالية من نفس القيود، حيث يتم تصنيف بعض الحريات بأنها دعوات للكراهية ولاستخدام العنف أو التشكيك فى قدسية بعض المواقف. ويعد الموقف من الهولوكوست أو الترويج للأفكار الشيوعية من الحالات التى تصطدم بحرية التعبير وحرية الصحافة فى العديد من المجتمعات الغربية.
•••
من هنا لم يكن بغريب أن تنشر صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية الأسبوع الماضى مقالا للكاتب ديفيد بروكس، وهو كاتب محافظ يدعم الجمهوريين فى أغلب القضايا، بعنوان «لست مع شارلى إبدو» أدان بالطبع قتل الصحفيين الذين قتلوا فى حادثة شارلى إبدو وأعتبرهم شهداء حرية التعبير. إلا أنه أضاف أنه لو حاول هؤلاء الإعلاميون نشر صحيفتهم الساخرة فى أى حرم جامعى أمريكى خلال العقدين الأخيرين، فإن الطلاب وأعضاء هيئة التدريس سرعان ما سيقومون بمنعهم من الاستمرار بالنشر وباتهامهم بالترويج لخطاب الكراهية. كما استشهد الكاتب بجامعة إلينوى التى طردت أستاذا لأنه قام بتدريس وجهة نظر «الكاثوليكية الرومانية» بشأن الشذوذ الجنسى، وأن جامعة فاندربيلت استبعدت أستاذة كتبت، وطالبت بأن تكون إدارة الجامعة من المسيحيين فقط.
•••
تناول جريمة شارلى إبدو خارج أى إطار آخر غير أنها انتهاك للقانون الفرنسى، وأنها عمل إجرامى يصعب من طرق مواجهة الجرائم التى سيشهدها المستقبل. عمليات القتل هى أعمال مجنونة متطرفة يقوم بها مجرمون متطرفون، وذلك بغض النظر عن خلفيتهم أو لون بشرتهم أو المعتقد الدينى الذى يؤمنون به صوابا أو خطأ.