دأب الزعماء فى إسرائيل على تشجيع ذهان قومى إزاء الأخطار الوجودية التى تهدد إسرائيل، والتى تتبدل. ياسر عرفات الذى كان محاصرا فى ملجئه فى بيروت، كان بالنسبة إلى مناحيم بيجن، هتلر الجديد. بعد فترة حلّ محله صدام حسين. اليوم، إيران هى التى تعدّ لنا محرقة ثانية. التهديد الإيرانى لإسرائيل، الذى يتخذ ساحة قتال له فى الجبهة الداخلية المدنية ــ وهى فى إسرائيل الأكثر عرضة للخطر، وحساسة بصورة خاصة ــ هو تهديد تقليدى وليس تهديدا نوويا. وإيران نووية ليست تهديدا وجوديا بقدر ما هى تهديد استراتيجى كاسر للتوازن يفرض على إسرائيل أن تدرك أن «عقيدة بيجن» ــ هجوم استباقى هدفه تدمير أى برنامج نووى فى المنطقة قبل أن يصبح عسكريا ــ تقترب من نهاية دربها، وبالتالى يجب عليها تغيير استراتيجيتها الإقليمية.
بالتأكيد لا يمكن الاستخفاف بإيران نووية؛ لأنها يمكن أن تحرك سباقا بين دول أُخرى فى المنطقة للحصول على القنبلة، مثل تركيا ومصر والسعودية. ولا يوجد تشابه بين ميزان الردع النووى، الذى كان موجودا بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى فى مرحلة الحرب الباردة ــ ولا توازن الرعب فى النزاع الثنائى بين الهند وباكستان، الدولتين النوويتين ــ وبين انتشار نووى واسع النطاق فى الشرق الأوسط مع نزاعاته، ومع الميليشيات والتنظيمات الإرهابية الكثيرة التى تنشط فيه.
ما هو بالتحديد الذى حوّل إسرائيل وإيران ــ دولتين لا حدود مشتركة بينهما ولا نزاعات تاريخية، بل لديهما عدو مشترك هو العالم العربى السّني ــ إلى عدوتين لدودتين؟
عداء إيران لـ «الشيطان الأصغر» إسرائيل التى كانت حليفة لإيران فى عهد الشاه، ولـ«الشيطان الأكبر» الولايات المتحدة، هو فى نظرها مسألة سياسية ــ لاهوتية لها علاقة بتحديد هوية الثورة الإسلامية. ومثل ثورات أُخرى فى الماضى ــ الثورة الفرنسية والسوفيتية ــ تعتبر الجمهورية الإسلامية انتشارها فى منطقة عربية ــ سنية معادية أداة مركزية فى الدفاع عن الثورة، وفى نشر تعاليمها. إيران لا تعتبر المفاوضات بشأن القضية النووية مدخلا إلى مصالحة تاريخية مع النظام الأمريكى ــ الإسرائيلى فى المنطقة. نظام يشكل عقبة فى طريقها وتسعى لأن تكون قطبا معارضا له.
الحرب بين إسرائيل وحزام الميليشيات التى نشرتها إيران فى المنطقة ــ وعلى رأسها حزب الله ــ تدور منذ أعوام بكل الوسائل الممكنة، فى الظلام وفى الجو، وفى البحر ومن خلال هجمات سيبرانية. اللحظة المؤسِّسة للعداء الإسرائيلي ــ الإيرانى كانت ولادة عملية السلام الإسرائيلي ــ العربى. فقد استُبعدت إيران من مؤتمر السلام فى مدريد ومن اتفاقات أوسلو ــ التى فتحت أبواب العالم العربى أمام إسرائيل، وصولا إلى دعوة شمعون بيرس إلى انضمام إسرائيل إلى الجامعة العربية ــ كل ذلك جسّد سيناريو رعب بالنسبة إلى إيران، معناه العزلة فى منطقة يتحالف فيها أعداؤها اللدودون مع قوة كبرى إقليمية، مثل إسرائيل، التى تقف وراءها الولايات المتحدة.
سلام إسرائيلى ــ عربى هو تهديد استراتيجى لإيران التى خسرت قبل أعوام من اتفاق أوسلو مئات الآلاف من أبنائها فى حرب فرضها عليها صدام حسين. حل المشكلة الفلسطينية من خلال تسوية سياسية هو آخر أمر تريده. لقد أدارت إيران ظهرها لعرفات عندما توجه إلى تسوية مع إسرائيل، لكنها دعمت خياره فى الحرب، واليوم هى تؤيد معارضة «حماس»، وتعارض بقوة الخيار الدبلوماسى لمحمود عباس.
•••
الدرس الذى تعلمته إيران، وهى فى طريقها إلى دولة على حافة النووى، هو أن القدرة النووية التى تملكها أنظمة قمعية، مثل كوريا الشمالية، تمنحها حصانة فى مواجهة هجوم أمريكى لإطاحة النظام. كما تعلمت أنه لو كان لدى صدام حسين سلاح نووى لما تجرأت الولايات المتحدة على غزو بلاده فى سنة 2003. درس آخر مهم يمكن أن تتعلمه إيران من حالة أوكرانيا التى بقى لديها، مع تفكك الاتحاد السوفيتى، ترسانة نووية كانت الثالثة من حيث الحجم فى العالم. لو لم توافق أوكرانيا فى مذكرة «بودابست» فى سنة 1994 على التخلى عن قدراتها النووية فى مقابل ضمانات أمريكية للحفاظ على سلامة أراضيها، فمن شبه المؤكد لما كانت روسيا تجرأت على احتلال شبه جزيرة القرم، ولما هدد الرئيس الروسى فلاديمير بوتين بغزو أوكرانيا كما يفعل اليوم.
لا الحرب الهجينة مع إسرائيل، ولا العقوبات الاقتصادية القاسية التى فرضتها الولايات المتحدة، منعت إيران من التقدم، بعناد، إلى وضع دولة على حافة النووى. يعانى الاقتصاد الإيرانى حاليا جرّاء أزمة عميقة، ومن حين إلى آخر تخرج الاحتجاجات إلى الشوارع. أيضا أوروبا، التى وعدت إيران بالالتفاف على العقوبات بعد خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووى، تبين أنها دعامة من قصب. وليس فى إمكان اليورو الهش الالتفاف على مركزية الدولار الأمريكى فى المنظومة المالية العالمية. مع كل ذلك، يتضح أنه عندما تملك دولة قدرات تكنولوجية وعلمية ــ وإيران تملك ذلك ــ وتكون مصرّة على الوصول إلى القدرة النووية، فإنها تقدر على تحقيق ذلك.
•••
عقيدة بيجن استُخدمت بنجاح كبير لدى تدمير المفاعل العراقى فى سنة 1981، والسورى فى سنة 2007. لقد كانت عمليات جراحية ضد منشآت موجودة فى دول امتنعت من الاعتراف علنا بأن لديها برامج نووية. بناءً على ذلك، المخاطرة بأن مهاجمة هذه المنشآت ستؤدى إلى حرب شاملة كانت ضئيلة، وتقريبا غير موجودة. فى المقابل، الإيرانيون لا يستطيعون عدم الرد بهجوم مباشر ضد أهداف إسرائيلية، ومن خلال استخدام وكيلها فى لبنان حزب الله.
مع ذلك، أى هجوم إسرائيلى سيضع إيران أمام معضلة صعبة. ومثل إسرائيل التى تشكل الجبهة الداخلية نقطة ضعفها الكبيرة، تفضل إيران القيام بردّ مدروس على شن حرب شاملة. لكن الحروب عموما تتعقد، وقد تتدهور المواجهات إلى حرب ساحقة تضطر فيها أيضا الولايات المتحدة إلى التحرك إذا تعرضت قواتها فى المنطقة للهجوم، وكل ذلك يمكن أن يضر بقيمة عليا فى نظر الزعامة الإيرانية، بغض النظر عن راديكاليتها: المحافظة على النظام وضمان إنجازاته فى المنطقة.
المعضلة التى سيواجهها حزب الله ستكون أصعب. إيران لم تمول الحزب على الحدود الشمالية مع إسرائيل بأموال طائلة، فقط كى يحارب لإعادة مزارع شبعا إلى لبنان. لقد فعلت ذلك من أجل اللحظة التى سيكون عليها فتح جبهة إضافية فى مواجهة إسرائيل. لكن هنا، تحديدا، تكمن نقطة ضعف الإمبراطورية الإيرانية: فهى تعتمد على ميليشيات محلية وعندما تنشب حرب شاملة، سيكون عليها أن تقف مع المصلحة الوطنية وليس مع مصلحة إيران. فى العراق، على سبيل المثال، الزعيم الشيعى الأكثر قوة مقتدى الصدر، وقف فى الأعوام الأخيرة على رأس المعارضين للسيطرة الإيرانية على بلده. أيضا حزب الله هو تنظيم محلى لبنانى، وهو يتخوف منذ الحرب الثانية على لبنان من الدمار جرّاء حرب شاملة مع إسرائيل. مع ذلك، وقوف حزب الله موقف المتفرج إذا اندلعت مواجهة إسرائيلية ــ إيرانية مباشرة هو ترف لا يستطيع الحزب أن يسمح لنفسه به.
الاستراتيجيا المفضلة لإيران هى الامتناع من خوض حرب حسم والاستمرار فى تطوير قوات محلية، من اليمن، وصولا إلى لبنان، من خلال التقدم إلى عتبة القدرة على إنتاج قنبلة من دون تخطّيها.
ليس لكل مشكلة حل عسكرى، وليس لدى إسرائيل مثل هذا الحل للبرنامج النووى الإيرانى. هجوم إسرائيلى على إيران يمكن فقط أن يعطى حافزا للطموحات النووية الإيرانية. وممنوع أن تسيطر على النقاش مسألة الاستعدادات الإسرائيلية لمثل هذا الهجوم. وما لا يقل أهمية هو انتهاج استراتيجيا إقليمية تعمل على تحريك وتوسيع اتفاقات أبراهام من أجل التوصل إلى تسويات أمنية إقليمية تسعى لكبح السباق النووى فى المنطقة. السباق النووى يتطلب لعبة مختلفة تماما عن تلك التى تعودنا عليها فى مرحلة كانت فيها عقيدة بيجن هى العقيدة الوحيدة.