تتبدى علاقة الفواعل العنيفة دون الدول، لاسيما التنظيمات الإرهابية، بالطائرات المُسيَّرة المسلحة، المعروفة باسم «المركبات الجوية غير المأهولة»، فى ملمحين بارزين؛ أولهما: استخدامها من لدن الدول كأداة ناجزة فى عمليات مكافحة الإرهاب؛ عبر استهداف الكيانات المتطرفة على شاكلة: «حركة الشباب» الصومالية، وتنظيمى «القاعدة» فى ليبيا، و«داعش» فى سوريا.
فمن خلال العملية «شادر»، التى بدأها سلاح الجو البريطانى فى أغسطس 2014، ضمن «التحالف الدولى»، استهدفت مٌسيّرات من طراز «ريبر»، مواقع وكوادر داعشية عديدة داخل سوريا. وأخيرا، عمدت واشنطن وحلفاؤها إلى اصطياد الإرهابيين «عبر الأفق»، من خلال استراتيجية «قطف الرءوس»، التى اعتبرها الرئيس الأمريكى، بايدن، أقل كلفة وأمضى فاعلية. كونها تجتث قيادات التنظيمات الإرهابية حول العالم، بما يفت فى عضدها ويجهض مخططاتها.
وبلا مراء، شكل العام المنقضى «خريف الزعامات الداعشية»؛ إذ هلكت خلاله ثلاثة قيادات بالصف الأول للتنظيم، إثر ضربات قاصمة متتالية. وفى معاركها ضد الجماعات الإرهابية والمتمردين، لجأت دول أفريقية للاستعانة بالمسيرات، التى اعتمدت الحكومة الصومالية على التركية منها، لدحر «حركة الشباب» جنوب ووسط البلاد.
أما الملمح الثانى، فيتجلى فى استخدام الإرهابيين للمُسيرات، مستفيدين من سهولة تشغيلها، وتواضع كلفتها، ويسر الحصول عليها، فى ظلِّ توفر مجموعة متنوعة من الاستخدامات التجارية والترفيهية، المشروعة والمقننة. ويؤكد خبراء أن «داعش»، استطاع، إبان فترة ازدهاره، تطوير نماذج بدائية من المسيرات، وتوظيفها فى بعض الهجمات بسوريا والعراق. فعقب إعلان خلافته المزعومة عام 2014، بدأ بالاعتماد عليها لتوسيع حدود دويلته. ومع اقتراب التحالف الدولى من الموصل، عاصمة الخلافة العراقية، عام 2016، أمست المسيرات ركنا ركينا للاستراتيجية الهجومية الداعشية. إذ وصلت قدراتُ التنظيم المتطرف ذروتها، فى مجال استخدامها، قبل أن يفقد السيطرةَ على المدينة عام 2017. فلقد كشف تقرير لصحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية، عن استخدامه مسيرات لجمع المعلومات، وقصف مواقع العمليات. فضلا عن تخصيصه ثمانين منها لشن هجمات ضد القوات العراقية والتحالف الدولى شرق سوريا، بعد تزويدها بذخائر، تم تصنيعها بواسطة طابعات ثلاثية الأبعاد. ورغم فرض التحالف الدولى حظر طيران على المسيرات التجارية، تمكن التنظيم من إدخال تعديلاتٍ على تطبيقاتها الذكية، وتركيب وتوليف رقاقاتٍ إلكترونية على أنظمتها المعنية بتحديد المواقع.
فى مؤلف أصدراه العام الفائت، بعنوان: «الأعداء، القريبون والبعيدون: كيف تضع الجماعات الجهادية استراتيجياتها وتخطط وتتعلم»، يؤكد، ديفيد روس، وتوماس جوسلين، من خلالِ منظور التعلّم التنظيمى، أن التنظيمات الجهادية استفادت من إخفاق أجهزة الاستخبارات، فى الاعتراف بقدرة الإرهابيين على التعلّم من الذكاء الاصطناعى، والتكيّف مع الثورة التكنولوجية. ومن ثم نجحت تلك التنظيمات فى اقتناء المُسيَّرات التجارية البدائية، التى يمكن للمرء أن يشتريها بأسعارٍ زهيدة. وخلال السنوات القليلة المنقضية، غدت المسيرات محورا رئيسا فى استراتيجيات المنظمات الإرهابية، مثل «داعش»، والحوثيين، وجبهة النصرة؛ ناهيك عن التنظيمات المسلحة غير الدينية، مثل حزب العمال الكردستانى. فلقد تسنى لها، الحصول على طرازات مختلفة منها، عبر أطراف ثالثة، خصوصا فى أفريقيا، حيث تنتشر عصابات الجريمة المنظمة وغسل الأموال. ومع توفر التكنولوجيا اللازمة لصنع مسيرات أكثر تطورا، وإتاحة برامج الملاحة عبر الأقمار الاصطناعية التجارية، لم يعد عصيا على الإرهابيين، توفير المتطلبات اللازمة لتصنيع المسيرات، ثم تزويدها بالأسلحة والذخائر.
لم يستبعد مقال بموقع «فوربس»، إمكانية تجاوز تنظيمى «داعش»، و«القاعدة»، لتكتيكات العبوات الناسفة التقليدية فى استهدافها للجيوش النظامية، والعروج لاستراتيجيات المسيرات فى ارتكاب عمليات إرهابية معقدة ومخيفة. ويستشهدون بما يجرى منذ عام 2016، حينما استخدم الدواعش مسيرات تجارية زهيدة الثمن، لإلقاء قنابل يدوية على دوريات التحالف الدولى فى سوريا والعراق. إضافة إلى شن هجماتٍ ضد مواقع حيوية مختلفة بدول الشرق الأوسط؛ مثل القواعد العسكرية، ومواقع تخزين النفط، والمطارات. وفى فبراير الماضى، أكد قائد القيادة المركزية الأمريكية، الجنرال كينيث ماكينزى، أن المسيرات باتت الخطر الأعظم على القوات الأمريكية فى العراق، وليس العبوات الناسفة. وأن الجماعات الإرهابية قادرة على إجراء تعديلات على مسيرات صغيرة بقيمة ألف دولار، لتصبح أكثر فتكا. مشيرا إلى أن قوات سوريا الديمقراطية كشفت خلال حربها مع تنظيم «داعش»، عن امتلاكه مصانع وورشا لتصنيع مسيرات صغيرة. تديرها كوادر بشرية علمية، بوسعها التغلب على معضلات صنع المتفجرات أو الذخائر.
فى تقريرها عن «دور المسيرات فى الهجمات الإرهابية المستقبلية»، أفادت «رابطة جمعية جيش الولايات المتحدة»، بأنها تتيح للإرهابيين القيام بهجمات متعددة ومتزامنة. فعلاوة على سهولة الحصول على تكنولوجياتها من خلال القنوات التجارية العادية، لن يستعصى تحويل أى مسيرة بسيطة إلى نسخةٍ قتالية، مثلما فعل «داعش» فى سوريا مع المُسيَّرات الصينية من طراز «DJI». إذ نجح فى تعديل مُسيَّرات الهواة التجارية، لتحمل قنابل صغيرة. كما أظهر قدرة مذهلة على استخدام أسراب من مسيراته الصغيرة البدائية، القادرة على حمل القنابل اليدوية، والقنابل الهجينة المصنعة يدويا، أو قذائف الهاون، فى هجماتٍ منسقة، وبالغة الخطورة، على المواقع العسكرية، والبقاع المدنية المكتظة بالسكان، ما يهدد بتعطيل المطارات ومحطات الطاقة، وشبكات الاتصالات.
بجانب تنظيم «داعش»، و«جماعة نصرة الإسلام والمسلمين»، التابعة لتنظيم «القاعدة»، والتى يتشابك نشاطهما بين شرق القارة الأفريقية وغربها، باتت جماعة «بوكو حرام» النيجيرية، رائدة فى استخدام المسيرات. حيث أكدت مصادر غربية، حصولها على مسيرات، تفوق فى تطورها، تلك التى تستخدمها الحكومة النيجيرية. فيما أظهرت حركة «الشباب» الصومالية تميزا فى توظيفها بهجمات ضد أهداف حكومية، وتمركزات القوات الكينية بالصومال. أما جماعة الحوثى، فقد أتقنت استخدام مسيرات هجومية صغيرة، قادرة على التحليق لمئات الكيلومترات، واستهداف منشآت نفطية فى السعودية والإمارات. وقد رصد «مركز الصحراء وأفريقيا للدراسات الاستراتيجية» المغربى، تناميا مقلقا فى نفوذ «داعش» وأخواتها بأفريقيا، وتفاقما فى قدرتهم على تجميع، أو صناعة المسيرات. وأورد تقرير نشره «معهد الدراسات الأمنية «بجنوب أفريقيا فى أكتوبر الماضى، أدلة على استخدام الإرهابيين للمسيرات فى أفريقيا، مستشهدا بنشر جماعات متطرفة مسيرات فى مقاطعة كابو ديلجادو، بشمال موزمبيق. وتوقع مركز «أفريقيا للدراسات الاستراتيجية»، أن تغير تكنولوجيا المسيرات وجه الحروب فى القارة السمراء.
لا يقتصر استخدام الإرهابيين للمُسيّرات، على المآرب الهجومية الانتحارية فحسب، وإنما يمتد ليشمل توظيفها لأغراض الاستطلاع، ونقل الصور والمواقع؛ فيما يعرف بالاستعلام الآلى. علاوة على استخدامها كأداة دعائية. فمن خلالها، التقط «داعش» مقاطع مصوّرة لمقاتليه، وهم ينفذون عملياتٍ انتحارية بسيارات مفخّخة؛ توطئة لاستخدمها فى إنتاج مواد إعلامية، تسهم فى تقوية تماسك التنظيم، واستقطاب وتجنيد المزيد من الأتباع. وبينما يعد تنظيم القاعدة أقل نشاطا فى استخدام المسيّرات، برع فرعه السورى السابق، المعروف باسم هيئة تحرير الشام»، فى توظيفها كأداة إعلامية ودعائية، من خلال الترويج لهجومه على قاعدة روسية بسوريا مطلع العام 2018، عبر مسيرة محلية الصنع. كذلك، يستخدم الفاعلون دون الدول، والعصابات الإجرامية، المسيرات، لأهداف لوجيستية، بغية الوصول إلى زملائهم المسجونين، أو إيصال الإمداداتٍ إلى ذويهم المحاصرين بالمناطق المحمية أو المحصنة. وفى أفريقيا، تستغلها الجماعات الإرهابية لمراقبة تحركات الجيوش، وتتبع قوات حفظ السلام الأممية. فضلا عن تهديد الحكومات، وابتزازها.
بالغ الخطورة، هوالتحدى، الذى يمثله استخدام التنظيمات الإرهابية للمُسيرات. فبموازاة تحرك الدول لإجهاض تهافت الإرهابيين لاقتنائها، وتطويرها، واستخدامها، تتعاظم حاجة الجيوش الملحة لتطويرِ أنظمة دفاعية مضادة، لا تزال، حتى الآن، غير مستدامة، أو متناسبة اقتصاديا وعملياتيا. حيث يتعين على صاروخ «باتريوت» أمريكى، بكلفة خمسة ملايين دولار، إسقاط مسيرة انتحارية داعشية، لا يتخطى ثمنها بضعة آلاف من الدولارات. كذلك، يتخوف مراقبون من إقدام التنظيمات الإرهابية على استخدام المُسيرات فى تنفيذ هجمات بأسلحة كيميائية أو بيولوجية. أو أن تعجز تلك التنظيمات عن السيطرة على أنظمة المُسيرات المسلحة؛ خصوصا إذا لامست مستويات ذكاء اصطناعى، يجعلها مستقلة القيادة أو ذاتية التشغيل. الأمر الذى يفرض على المجتمع الدولى، التوسع فى بناء شبكات منسقة وناجزة، من أنظمة الإنذار المبكر، فائقة التطور.