فى الرابعة إلا الربع من عصر يوم الإثنين الماضى سألنى تليفزيون الـ BBC عن تعليقى على ما قاله وزير الخاجية البريطانى ديفيد كاميرون، منتقدا ما اعتبره «بيروقراطية مصرية تمنع تدفق المساعدات الإنسانية والغذائية إلى قطاع غزة»، الذى يتعرض لعدوان إسرائيلى غاشم منذ ٧ أكتوبر الماضى.
للوهلة الأولى تخيلت أن كاميرون صار يتحدث باسم إحدى فصائل المقاومة الفلسطينية التى تواجه إسرائيل، أو أنه يرأس منظمة حقوقية إخوانية أو معارضة للحكومة المصرية ويريد أن يتهمها بأى تهمة، أو أنه رئيس لإحدى الجمعيات الأهلية، أو المنتديات التى لا ترى حلا للمشكلة إلا فى إعلان مصر لحالة الحرب ضد إسرائيل والولايات المتحدة.
حاولت البحث عن نص ما قاله كاميرون حتى يكون تعليقى عليه دقيقا، لكن لم أعثر على أى شىء يخص كلامه الانتقادى لمصر، وبالتالى فقد اكتفيت بما جاء فى الـ BBC التى يصعب إن لم يكن يستحيل أن تفبرك كلاما فى هذا الصدد.
لكن وأنا أبحث وجدت مقالا لكاميرون فى صحيفة الجارديان منشورا يوم ١٢ يناير الحالى عنوانه: «كيف نتجنب تحول الجوع إلى مجاعة فى غزة ٢» ومرفق بالمقال صورة شديدة التعبير لطابور طويل من أطفال فلسطين حاملين الأوانى والأطباق للحصول على الطعام فى قطاع غزة.
جوهر المقال أن كاميرون يدعو إسرائيل إلى السماح بمرور المزيد من المساعدات والمساهمة فى إنقاذ الأرواح فى غزة. ويندهش كاميرون من إحصائية برنامج الغذاء العالمى التى تقول إن ٩ من كل عشرة فلسطينيين فى شمال غزة يتناولون وجبة واحدة يوميا، وأن الظروف الحالية تجعل انتشار الأمراض أمرا واردا.
الجزء الخاص بما قاله كاميرون عن مصر جاء فيه أن الكثير من المساعدات عالقة ومتراكمة فى العريش ولا يمكن دخولها إلى غزة، ويتعين أن نساعد الأمم المتحدة فى إدارة وتوزيع المساعدات الإنسانية وهى تعمل فى ظروف يائسة، وأن المزيد من التأشيرات واستيراد المركبات لهم سيعنى أن الموظفين الدوليين فى أمان، وأنه خلال الأسبوع الماضى دخلت القطاع ١٣١ شاحنة إلى غزة يوميا عبر معبرى رفح وكرم أبوسالم، والرقم يزحف إلى ٢٠٠ شاحنة يوميا وإن ذلك ليس كافيا على الإطلاق، ويجب أن يقترب العدد من ٥٠٠ شاحنة».
أؤيد كل ما جاء على لسان كاميرون فى هذه الفقرات السابقة لكن بتحفظات بسيطة وهى أن تكون المصطلحات واضحة ومحددة، وأن نقول «للأعور أنت أعور فى وجهه وعيونه ومن دون مواربة!!».
التحفظ الأول أن المؤكد أن كاميرون يدرك أن إسرائيل هى التى تمنع دخول المساعدات وليس مصر ومن مصلحة مصر الخاصة والوطنية أن تتدفق المساعدات لتجعل القطاع مكانا صالحا للحياة كى تفشل المخطط الإسرائيلى بتهجير الفلسطينين إلى سيناء. يدرك كاميرون أن إسرائيل ظلت أكثر من أسبوعين تمنع دخول أى مساعدات إنسانية بعد بدء العدوان، وأن كبار مسئوليها تفاخروا قائلين إننا لن ندخل أى ماء أو دواء أو غذاء أو وقود للقطاع»، وحتى بعد أن اضطرت للقبول بذلك، فقد ماطلت طويلا ولم تسمح إلا بدخول ٣٠ شاحنة يوميا بعد إخضاعها لعمليات تفتيش دقيق.
لا أعرف هل السيد كاميرون الذى كان رئيسا سابقا للوزراء، ثم عاد وزيرا للخارجية يدرك أن مصر تعلن ليل نهار أن معبر رفح لم يغلق للحظة واحدة من الجانب المصرى، وأنه مفتوح دائما لإدخال المساعدات وإخراج المصابين والمرضى الفلسطينيين وليس لتنفيذ مخطط التهجير الإسرائيلى.
وحتى يكون الكلام محددا ودقيقا فإننى أقترح على الوزير كاميرون أن يزور إسرائيل كما زارها من قبل مؤيدا للعدوان، وأن يزور المعابر كلها وليس رفح فقط، لكن هذه المرة كى يقنع إسرائيل بفتح كل المعابر لإدخال المساعدات الإنسانية والإنمائية للقطاع.
وإذا كان كاميرون يشعر بالألم فعلا لما يحدث فى غزة فيمكنه هو وحكومته إقناع إسرائيل أو الضغط عليها لوقف إطلاق النار، ووقتها تنتهى كل المأساة، لكن الذى حدث أن بريطانيا لا تؤيد وقف إطلاق النار، بل وتتضامن مع إسرائيل فى لاهاى ضد شكوى جنوب إفريقيا فى محكمة العدل الدولية التى تتهمها بالإبادة الجماعية للشعب الفلسطينى.
إذا فعل السيد كاميرون ذلك، وقتها يمكن أن نتحدث ونناقش هل هناك بيروقراطية مصرية فعلا تعيق إدخال وتدفق المساعدات ونعالجها، أم أن السيد كاميرون لا يريد أو حتى يجرؤ على توصيف الأشياء بمسمياتها، ويقول إن المشكلة فى العدوان الإسرائيلى وليست فى البيروقراطية المصرية!