كثير جدا من الجل والفازلين والجهل والقدرة على الادعاء والجرأة على الإفتاء فى كل شىء، وكثير من احتقار عقل المتلقى ورابطات العنق المزركشة، والمفردات الإنجليزية المقحمة عنوة فى الكلام، مع قليل جدا من المعرفة وأقل القليل من احترام مشاعر الناس، هذه هى الخلطة السحرية لعديد من منظرى هذا العصر السعيد، الذين هبطوا على الصحف والشاشات مثل نسور الجو الجائعة.
معظمهم ــ إلا من رحم ربك ــ منتفخون جهلا واستعلاء على عقول الناس ومشاعرهم، يدعون الليبرالية وحرية التعبير والمعتقد، وفى نفس الوقت لا يتورعون عن الاستخفاف بعواطف الجماهير وانحيازاتها واختياراتها الفطرية، فإذا ضبطت الجماهير متلبسة بممارسة لحظات من البهجة فى السياسة أو فى كرة القدم أو حتى فى الأغنية، فهم فى نظر مثقفى الجل والفازلين يسلكون كالقطيع بلا عقل أو وعى.
من ذلك مثلا أن الجماهير التى تحاصرها الإحباطات والانكسارات والهزائم من كل اتجاه وجدت فى ضرب منتظر الزيدى لجورج بوش بالحذاء ثقبا فى جدار الإحساس بالهزيمة والضعف فاعتبرت واقعة الزيدى فرصة لاصطياد لحظات من رد الاعتبار، أو حتى التشفى فى شخص قتل مئات الآلاف وأهان الملايين، فماذا يضير هؤلاء الهابطون من علٍ، أن تبتهج هذه الجموع ولو حتى على طريقة القطيع.. وماذا سيخسر العقل العربى (وهل بقى هناك عقل عربى أصلا؟) لو هتف الناس أو صرخوا أو رقصوا طربا مع حذاء الزيدى أو كاتيوشا المقاومة اللبنانية، أو صواريخ المقاومة الفلسطينية على المستعمرات الإسرائيلية؟
سيقول لك الهابطون المنتفخون جهلا وادعاء بكل بجاحة قولة المتنبى الشهيرة (يا أمة ضحكت من جهلها الأمم)، وربما يذهب أحدهم إلى أبعد من ذلك، ويقول لك إن مثل هذا التصرف لا يساهم فى تحسين صورتنا عند الغرب، وهنا قمة الدونية واسترخاص الذات واحتقارها فى التعامل مع الآخر، الذى هو فى نظرهم منتهى الحضارة، ومنتهى العقلانية والإنسانية، وكأن أحد مقاييس التحضر أن تشعر على الدوام بأنك مخلوق ناقص أمام ذلك الغرب الوديع الإنسانى الراقى المكتمل.
وتحضرنى هنا مقولة رائعة للمفكر العربى الكبير الدكتور عزمى بشارة أطلقها فى العدوان الصهيونى الأخير على غزة «لماذا أحسن صورتى أمام الغرب.. ولماذا لا يحسن الغرب صورته عندى خاصة أنه بارع فى صناعة الصور؟».
وأتساءل من عندى: لماذا يعتبر الهابطون بساطة الناس وعفويتهم نوعا من العمى العقلى، بينما لا يرون فيما يذهبون إليه نوعا من الانسحاق التام أمام ما يحشو به الآخرون رءوسهم الفارغة، إلا من الجل والفازلين؟