تقليد جيد ولاشك ذلك الذى يتبناه الكونجرس الأمريكى ــ بلجانه المتعددة ــ فى عقد جلسات استماع، يطَّلع أعضاء اللجان من خلالها على وجهات النظر المختلفة حول القضايا التى تعالجها تلك اللجان قبل أن تصدر قراراتها أو تتبنى توجيهاته. إنما يفترض بالطبع أن تلتزم هذه اللجان بالموضوعية وعدم التحيز، وهى نفس الصفات التى يفترض أن تتوافر أيضا فى الشاهد الذى تستدعيه اللجنة للتحدث أمامها.
للأسف لم تتوافر هذه العناصر عندما عقدت اللجنة الفرعية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا بمجلس النواب الأمريكى جلسة استماع يوم 20 فبراير الماضى تحت عنوان «مظاهرات ميدان التحرير: بعد مرور عامين، ما الذى تغير؟» فرئيسة اللجنة السيدة إلينا روز ــ ليهتينن معروفة بانحيازها المطلق لإسرائيل وسياستها، وتعلن باستمرار أن العلاقات بين أمريكا وإسرائيل إنما هى علاقات لا بديل عنها من أجل تحقيق الأمن القومى للبلدين. لا تحمل الرئيسة حبا مفقودا تجاه السلطة الفلسطينية، بل هى تعترض على حتى قيام الولايات المتحدة بتقديم أى دعم لوكالة غوث اللاجئين! تنحدر رئيسة اللجنة من عائلة يهودية تركية انتقلت إلى كوبا، ثم هاجرت إلينا روز للولايات المتحدة وانتخبت بعد فترة عضوا بمجلس النواب عن ولاية فلوريدا.
•••
ربما كان من المهم أن أوضح هذه الخلفية عن رئيسة اللجنة، ويهمنى أيضا أن استعراض خلفية أحد الشهود الذين استدعوا للحديث أمام اللجنة وهو إليوت برامز الذى يحمل صفة مرموقة وهى زميل بمجلس الشئون الخارجية الأمريكى.
برامز بدوره ينتمى لعائلة يهودية، ويعد من «الصقور» المعروفين فى الحقل السياسى، وكان من بين أقطاب من يطلق عليهم بالمحافظين الجدد. تنقَّل فى مناصب مهمة فى البيت الأبيض ووزارة الخارجية فى إدارتين جمهوريتين. وُقِّعَتْ عليه عقوبات لحجبه معلومات مهمة عن الكونجرس فى الفضيحة المعروفة بإيران ــ كونترا، ولإدلائه بشهادات كاذبة أمام الكونجرس فى ثلاث مناسبات متتالية!
•••
نأتى الآن إلى الجانب الموضوع أى ما قالته رئيسة اللجنة، ثم ما قاله الشهود. افتتحت الرئيسة جلسة الاستماع فعددت أخطاء الرئاسة المصرية منذ الإعلان الدستورى فى نوفمبر 2012. ثم انتقدت الدستور بسبب عدم توفيره الضمانات اللازمة للمرأة والأقليات الدينية، ثم تحدثت عما أسمته بوحشية الشرطة فى مصر فى تعاملها مع المتظاهرين. وانتقدت استمرار الولايات المتحدة فى تقديم المعونة الاقتصادية والعسكرية طوال المدة الماضية والتى تميزت بالممارسات القمعية وغير الديمقراطية. ثم اقترحت أن تعيد الولايات المتحدة النظر فى صفقة مساعداتها لمصر بحيث ثم توظيفها من أجل ضمان اتباع مصر لإصلاحات ديمقراطية حقيقية.
•••
وعندما جاء الدور على الشهود لكى يدلوا بشهاداتهم. انبرى اليوت برامز الذى تحدثت فى السابق عن خليفته، فطالب بأن تعيد الولايات المتحدة النظر فى المعونات التى تقدمها لمصر محذرا من تجاهل أمريكا ممارسات السلطة فى الداخل مادام صادفت السياسة المصرية الخارجية هوى الإدارة الأمريكية.
وقال إن قادة الإخوان المسلمين الذى يحكمون مصر حاليا لا يسعون إلى إعلاء التراضى والوفاق، لكنهم يهدفون إلى ترسيخ حكمهم ومن ثم توجيه مصر إلى الطريق الذى يرغبونه.
•••
لا أقول إن كل الشهود الذين تحدثوا أمام اللجنة كانوا ينطلقون من هذه النظرة المتحاملة. فالسيدة تامارا ويتز، وهى مديرة مركز سابان للشرق الأوسط فى معهد بروكينجر الشهير، قدمت بيانا ضافيا أمام اللجنة، وبالرغم مما تضمنه من انتقادات، فإنه جاء فى مجمله منصفا ومعبرا عما تحمله من مودة وتقدير لمصر وشعبها. قالت ويتز إن مصر ستبقى أكبر قوة اقتصادية وسياسية وثقافية فى العالم العربى، واعتبرت أن التفاعل الأمريكى مع الصحوات العربية عموما جاء أقل مما هو مطلوب. وذكرت أن أمريكا لديها الكثير مما يمكن أن تقدم وليس بالضرورة أن يقتصر الأمر على المساعدات الاقتصادية. رفضت بشدة أى محاولة لممارسة الضغوط على مصر، مشيرة إلى أن أى تأثير يمكن أن تحدثه الولايات المتحدة لن يكون عن طريق لىّ الذراع ولكن بالتشجيع والتحفيز. وأكدت أهمية عدم انحياز الولايات المتحدة لفريق بعينه على الساحة المصرية السياسية، بل عليها أن توسع من دائرة اتصالاتها مع كل أطياف المجتمع المصرى. تحدثت عن ممارسات الإخوان المسلمين التى تلقى المعارضة فى مصر، مشيرة إلى أن بعض أحزاب المعارضة دعت إلى مقاطعة الانتخابات البرلمانية المقبلة، والبعض دعا إلى اللجوء إلى الشارع من أجل إسقاط النظام، كما دعا البعض الآخر إلى عودة الجيش للسلطة. انتقدت الشاهدة كل هذه الطروحات، وحذرت من آثار استمرار العناد والتشبث بالرأى، من قبل طرفى المعادلة على الاستقرار فى مصر. وذكرت أن المطلوب من الأحزاب السياسية أن تقدم للناخبين المصريين خيارا حقيقيا، مؤكدة أن المقاطعة ستضاعف من حالة الاستقطاب الحالية فى مصر ومن تعاظم الأزمة السياسية فيها.
•••
وعندما كنت أُطالع ما جرى فى لجنة الكونجرس المذكورة وبيانات الشهود أمامها، كان يُلح علىّ التساؤل عن أسباب عدم طلب اللجنة لشهادات العديد من الشخصيات المصرية المرموقة فى الولايات المتحدة من أمثال الدكتور شريف بسيونى والدكتور محمد العريان، والدكتور أحمد زويل وغيرهم؟ ألم يكن الحال يقتضى سماع شاهد مصرى واحد على الأقل ليتحدث فى موضوع هو فى صميم الشأن المصرى، باعتبار أن أهل مكة هم أدرى بشعابها؟
•••
وفى الوقت الذى ألح علىّ هذا التساؤل، فوجئت برفض بعض شخصيات المعارضة المصرية مجرد لقاء وزير الخارجية الأمريكى الجديد جون كيرى عندما زار مصر يوم 2 مارس الجارى، وكانت مصر أول بلد عربى يزورها. لا أجد تبريرا واحدا لإحجام أى شخصية مصرية عن لقائه وشرح رؤيتها، إذ كيف يمكن تصور إقامة علاقات سليمة وسوية لمصر مع دول العالم فى إذا ما نحن رفضنا حتى مجرد الحوار مع المسئولين فيها.
فبقدر ما كنت أتمنى أن تستمتع لجنة الكونجرس التى أشرت إليها، إلى شهادة شخصية مصرية من أجل أن تكتمل الصورة أمامها، تمنيت على كل الزعامات المصرية أن تحرص على لقاء الوزير الأمريكى كى تعبر له عن وجهة نظرها، ولكى تناقشه، وتجادله فى كل ما يَعنُّ لها. أما القول بأن الوزير إنما يهدف إلى التدخل فى الشئون الداخلية، أو أنه يدفع المعارضة دفعا للحوار مع السلطة أو لخوض الانتخابات على غير إرادتها، فكلام معيب، ويصور المعارضة وكأنها مسلوبة الإرادة، الأمر الذى يديننا قبل أن يدين المسئول الأمريكى. على أية حال فقد حرص الوزير الأمريكى على تأكيد أنه غير راغب فى التدخل فى الشأن الداخلى، وأن بلاده لا تنحاز لفصيل معين على حساب فصيل آخر، وأن ما تتطلع إليه الولايات المتحدة هو وجود مشاركة واسعة لكل القوى السياسية فى العملية الانتقالية الحساسة الجارية الآن فى مصر.
•••
طالبت فى مقالات سابقة، وأعود لأطالب اليوم، بأن نحرص على إيصال صوتنا إلى الشعب الأمريكى، وإلى التأثير على دوائر اتخاذ القرار، سواء فى الحكومة أو فى الكونجرس أو المجتمع المدنى، وذلك بإرسال الوفود، وبشكل متواصل إلى الولايات المتحدة، حتى لا نترك الساحة خالية أمام غيرنا ممن لا يتمنون الخير لبلادنا بل يسعون إلى الإساءة إليها وتشويه صورتها.
•••
لم تكن ثورة 25 يناير لتقوم لو أن الشعب المصرى قد آثر الصمت أو المقاطعة أو رضى بالأمر الواقع. وما من دعوة ــ على امتداد تاريخ البشرية ــ إلا وحرصت على مخاطبة الغير، ومجادلته، وسعت إلى إقناعه والتأثير عليه.
مساعد وزير الخارجية الأسبق للشئون الخارجية