أدى المسار المرتبك فى إدارة المرحلة الانتقالية فى العامين الماضيين إلى عدة مشكلات أهمها إطالة المرحلة الانتقالية، ورفع تكلفة الانتقال بشريا وماديا، وتأزم الاقتصاد، وتسييس الجيش والقضاء والألتراس، وتمرد الشرطة، وتحويل البلاد إلى ساحة لمخططات إقليمية ودولية، بجانب ظهور مجموعات شبابية تستخدم طرقا غير تقليدية من العنف ضد مؤسسات السلطة وأجهزتها الأمنية.
عجز الرئاسة والحكومة عن معالجة هذه الملفات أو رهانها على الوقت، لن يؤدى إلا إلى تعقد المشكلات، وربما دفع قطاعات واسعة من الفقراء والمهمشين ــ الذين ظلوا صامتين وصابرين لعقود ــ إلى الاحتجاج لانتزاع حقوقهم المشروعة.
نعم هناك من يسعى إلى إفشال الرئاسة والحكومة، وهناك أيضا مخططات إقليمية ودولية لا تريد لمصر أن تنجح وأن تصبح نموذجا جديدا للحكم بالمنطقة، لكن ليس من الصواب مواجهة هذا بالاكتفاء بالحديث عن استهداف الآخرين وتربصهم أو بالحديث عن المؤامرة، وكأن الإعلان عن أننا نواجه مؤامرة هو الحل. لابد من أن يقترن هذا بخطة محددة لمواجهة المتربصين والمتآمرين، ولن يتم هذا إلا بإعادة لم شمل القوى السياسية لتحقيق أهداف الثورة كما سأوضح لاحقا.
كما أننى اعتبر أن تصدير رواية تفسيرية واحدة لكل ما يحدث إلى أنصار الرئيس داخل جماعة الإخوان، رواية تقوم على خطاب المؤامرة واستهداف الآخر للجماعة والرئيس يعد خطرا كبيرا على الجماعة ذاتها. لقد انقضى عهد الرأى الأوحد وتوجيه العقول وليس من الحكمة أبدا استخدام ذات الأساليب التى أسقطتها الثورة. الخطأ هنا سيكون له نتائج كارثية ستظل لسنوات وعقود وتاريخنا القريب ملىء بالأمثلة.
•••
إن أول خطوات مواجهة المؤامرة هو تقوية السلطة بالشعب وتوسيع قاعدة التحالفات والاستماع إلى الخبراء وليس العكس. ففى وقت الكوارث والأزمات فى الظروف الطبيعية فى الدول المستقرة ديمقراطيا تشكل حكومات وطنية ليشترك الجميع فى مواجهة الخطر وتحمل المسئولية، فما بالنا بمرحلة انتقال كالتى نمر بها.
وفى المراحل الانتقالية فى الحالات الناجحة للتحول الديمقراطى كان من الضرورى المشاركة فى السلطة وتحمل الجميع مسئوليات إدارة مرحلة الانتقال وبناء المؤسسات. أما فى الحالات الفاشلة للانتقال فقد كان على رأس أسباب الفشل انقسام القوى السياسية وتنافسها على غنائم معركة لم تنته فى الأساس.
فى اعتقادى لا حل إلا بما كان يجب فعله يوم 12 فبراير2011: مصالحة وطنية شاملة تخرج عنها وثيقة مكتوبة يوقع عليها الجميع وتتضمن خارطة طريق محددة، أتصور أنها يجب أن تضم النقاط الست التالية على الأقل:
أولا: توقف كل فصيل عن ادعاء احتكار الحكمة والفهم والوطنية، وقيامه بتقديم الأجندة الوطنية على أجندته الحزبية، وإدانته العنف بجميع أشكاله. والتعهد بهذا كتابة.
ثانيا: إقرار مبدأ المشاركة وليس التنافس، أى مشاركة الجميع فى تحمل العبء ومواجهة القوى المعادية للثورة وذلك بتشكيل حكومة موسعة برئاسة شخصية من خارج التيار الإسلامى بجانب الرئيس الحالى، على أن تمثل فيها جميع التيارات المختلفة أو من ترشحهم هذه التيارات. وعلى أن تشرع الحكومة فورا فى إنقاذ الاقتصاد وإعادة هيكلة جهاز الشرطة، وإصلاح مؤسسة القضاء ووضع نظام فعال للعدالة الانتقالية.
ثالثا: تشكيل فريق عمل من خبراء النظم السياسية والدستورية للنظر فى تعديل الدستور على أن تتضمن التعديلات القضايا التى أثارتها القوى السياسية فى السابق بجانب إضافة بنود جديدة تعكس المضامين الاجتماعية والاقتصادية للديمقراطية المنشودة وذلك لتحقيق العدالة الاجتماعية ومعالجة الفروقات الطبقية وخدمة قضايا المهمشين والفقراء من جهة، ومحفزات لدفع الناس إلى احترام حكم القانون وتفعيل دولة المؤسسات وتقوية الاحزاب ودفعها إلى التوافق وخدمة الصالح العام وذلك من جهة أخرى.
كما أننى أرى ضرورة أن تتضمن التعديلات الدستورية بندا ينص على أن تكون أول حكومة بعد الانتخابات القادمة حكومة وطنية موسعة طوال مدة عمل مجلس النواب الذى هو مجلس تأسيسى لمرحلة بناء وتأسيس، كما حدث فى أول انتخابات بجنوب افريقيا بعد التحول الديمقراطى مطلع التسعينيات. من سنن الانتقال الديمقراطى الناجح أنه لا يجب أن يسود منطق «سلطة ومعارضة» فى مرحلة الانتقال وإنما المشاركة فى السلطة والتوافق.
رابعا: الكف عن تسييس ما لا يجب تسييسه (الجيش والشرطة والقضاء والإعلام والجهاز الإدارى للدولة)، وتشكيل فرق عمل من الخبراء لإنقاذ الاقتصاد ولإعادة بناء كافة مؤسسات الدولة فى كل القطاعات على أسس وطنية ومهنية تماما، وعدم تسييس هذا الأمر، وذلك حتى يشعر المواطن بالأمل فى الانتماء إلى دولة عصرية مختلفة تماما عمّا كان سائدا ويستطيع المشاركة فى البناء.
خامسا: تشكيل فريق لفتح حوار حقيقى مع كل المجموعات الشبابية بهدف الاستماع لهم أولا ثم إيجاد آليات فعالة لدمجهم وتمكينهم من المشاركة والبناء. استمرار تجاهل الشباب أو الاستهانة بمطالبهم لن يؤدى إلا إلى تصاعد حركات الاحتجاج وعرقلة كل محاولات البناء.
سادسا: وضع خطاب سياسى وخطة إعلامية وتثقيفية وتعليمية محددة تزرع الأمل والوعى فى نفوس الناس، وتحدد لهم مخاطر الانتقال ومعالم خارطة الطريق ومستقبل البلاد، وتوضح لهم أيضا الملفات التى ستحتاج إلى فترات زمنية ممتدة حتى تتم معالجتها.
ونحتاج إلى هذا الخطاب السياسى وتلك الخطة الإعلامية أيضا لتحفيز الناس على العمل فى كافة القطاعات وعلى كافة المستويات. هذا أمر فى غاية الأهمية بالنظر إلى حالة اليأس والإحباط لدى قطاعات كبيرة من الشعب جراء الفشل فى معالجة الملفات الاقتصادية الملحة التى تمس حياة الناس. طاقات الناس إما أن تستثمر لدعم الانتقال والبناء وإما تترك فتصبح عقبة فى حد ذاتها.
•••
هل من عقلاء فى السلطة والمعارضة؟ أم علينا دفع ثمن أخطاء ما تسمى «النخبة»، التى ربما تتكون من عدد لا يتجاوز 40 أو50 شخصا، والتى أخّرت الإصلاح قبل الثورة بانقساماتها وتكاد الآن تقتل الثورة وتشعل مصر كلها.
أستاذ مساعد فى العلوم السياسية بجامعة الإسكندرية