ونحن فى خضم الحملة الانتخابية الرئاسية، ينبغى ألا نغفل عن الخريطة الاستراتيجية للعالم اليوم؛ فالنظام الدولى الراهن هو نظام تعددى توافقى تقف على قمته خمسة فاعلين كبار هم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى وروسيا والصين واليابان، وهو نظام يضع الدولة الإقليمية المركزية مثل مصر والهند وأمثالهما فى وضع حساس للغاية؛ حيث إن مصالحها وتحالفاتها لابد وأن تعكس التوازنات الدولية المتجددة، كما أن النظام الدولى الراهن يتيح لتلك الدول أن تلعب أدوارا استراتيجية حيوية.
بيد أن النظام الدولى اليوم يتعرض لتغييرات كبرى؛ فإذا أخذنا البعد الاقتصادى فى الاعتبار سنجد تغيرا جذريا فى القدرات الاقتصادية للفاعلين الدوليين، إذ تشير المؤشرات الاقتصادية إلى أن الصين على وشك إزاحة الولايات المتحدة من عرش الاقتصاد الدولى، صحيح أن الناتج القومى الإجمالى للولايات المتحدة يصل إلى 16 تريليون دولار، بينما يصل الصينى إلى ما يربو على 14 تريليون دولار، ولكن بالنظر إلى معدل النمو الاقتصادى للصين، والذى يناهز 7%، وفى الولايات المتحدة، والذى يقل عن 2%؛ فإنه بنهاية عام 2014، ستحتل الصين قمة النظام الاقتصادى الدولى، كما صارت الصين أكبر شريك تجارى دولى، إذ يبلغ حجم تجارتها 2.2 تريليون دولار، وتفوقت على الولايات المتحدة التى يبلغ حجم تجارتها 1.5 تريليون دولار، وتمتلك الصين أكثر من 8% من الدين الأمريكى البالغ 16 تريليون دولار، إذ تستحوذ على 1.3 تريليون دولار من سندات الخزانة، وإذا أضفنا إلى ذلك بزوغ القوة الاقتصادية الروسية، والذى يبلغ الناتج القومى لها 2.6 تريليون دولار والاحتياطى النقدى ما يناهز 516 بليون دولار، لاتضح لنا أن القدرات الاقتصادية لكل من الصين وروسيا تؤدى إلى تعديل مهم فى الخريطة الاستراتيچية الدولية، صحيح أن الناتج القومى لليابان حليفة الولايات المتحدة يناهز 4.7 تريليون دولار، وألمانيا ما يناهز 3.2 تريليون دولار، إلا أن ما يميز كلا من الاقتصاد الصينى والروسى عدم وجود ديون خارجية، كما يصل الاحتياطى النقدى للصين إلى 4 تريليونات دولار، وتعتبر روسيا أكبر الدول المنتجة لكل من البترول والغاز الطبيعى، ولديها أكبر احتياطى عالمى من الغاز.
•••
وإذا كان التاريخ يصنعه أفراد؛ فعلينا أن نقيم دور بوتين فى روسيا ودور كيكيانج فى الصين؛ إذ يسعى الأول إلى إعادة الدور التاريخى لروسيا بالعودة إلى احتواء الجمهوريات السوڤييتية السابقة بدءا من أوكرانيا، والتوسع حتى حدود أوروبا الشرقية، والثانى قد يساعده على ذلك إذا قرر التحول فى استيراد الطاقة من الشرق الأوسط إلى روسيا، وفى الوقت ذاته تحقيق السيادة الاقتصادية على الدول الرأسمالية، وبإتمام ذلك ينتقل مركز الثقل الاستراتيجى للعقود القادمة إلى آسيا خصوصا إذا أضفنا القدرات الاقتصادية للهند؛ حيث يصل الناتج القومى الإجمالى إلى حوالى 5 تريليونات دولار، وصادراته أكثر من 313 مليار دولار، كما أن الاحتياطى الوطنى يصل إلى 295 مليار دولار، والثانية إلى حوالى 30% من السكان يعيشون تحت خط الفقر، إلا أن الهند تشكل فاعلا آسيويا مهما.
ويصير هذا التحول ممكنا فى ضوء التطورات التى تحل على الولايات المتحدة وأوروبا؛ ففى أحدث قياس للمزاج الأمريكى، عبر أكثر من 50% من الأمريكيين عن رغبتهم فى التركيز على أوضاعهم الداخلية وعدم استخدام أية قوة عسكرية ضد روسيا لإثنائها عن سياساتها التوسعية الجديدة، كما أن حلف الأطلنطى لم يعد بذات القوة التى كان عليها قبل عام 1991، وتحول من سياسة الردع إلى سياسة التدخل فى الدول الضعيفة عسكريا لإحداث التغيير الملائم لمصلحة الغرب، كما حدث فى ليبيا، فضلا عن ذلك؛ فإن كلا من الصين وروسيا لا يعترضان على القدرات النووية لكوريا الشمالية، والتى تعد حجر عثرة فى استراتيجية الولايات المتحدة إزاء حلفائها الآسيويين، خصوصا اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين.
•••
ولا شك أن هذا التحول فى الميزان الاستراتيجى يؤثر على الخريطة الاستراتيجية فى الشرق الأوسط؛ فلم يعد الصراع العربى ـــ الإسرائيلى ذا أولوية لدى الفاعلين الدوليين، كما أن هناك بوادر تحالف ثلاثى بين إيران وتركيا وإسرائيل بغرض ضبط إيقاع التطورات فى الشرق الأوسط، ولعل أخطر ما يطرحه حمدين صباحى فى برنامجه هو حثه مصر على إقامة تحالف مع كل من تركيا وإيران، على الرغم من أن كليهما من أكثر أعداء مصر شراسة، وهى نفس المبادرة التى سبق أن أطلقها النظام الثيولوجى السلطوى، أما عبدالفتاح السيسى؛ فقد سبق أن حصل على زمالة من الولايات المتحدة، كما زار روسيا ووقع على صفقة أسلحة حديثة، وعبر عن ضرورة اهتمام مصر بالقارة الآسيوية، ولا شك أن نجاحه فى الانتخابات الرئاسية سوف يشكل الخطوة الأولى فى اتجاه إعادة النظر فى الخريطة الاستراتيچية العربية؛ فعليه أن يفكر فى اتجاهين مترابطين؛ إعادة توجيه السياسة الخارجية بما يحقق المصالح القومية ويصون الأمن القومى، والاتفاق مع دول الخليج العربى والأردن والمغرب وغيرهم حول بناء نظام إقليمى عربى جديد يتوافق مع التغيرات الاستراتيجية الدولية.