العسكرة المفرطة في عالم يتغير - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
الإثنين 25 نوفمبر 2024 12:56 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

العسكرة المفرطة في عالم يتغير

نشر فى : الأحد 16 يوليه 2023 - 8:40 م | آخر تحديث : الأحد 16 يوليه 2023 - 8:40 م

هواجس الأمن تتصدر المشهد الدولى تصعيدا وتسليحا واندفاعا إلى المجهول.
العسكرة المفرطة تغلب أى حسابات واعتبارات أخرى.
أمام انسداد شبه كامل لأى أفق سياسى يخفّض كلفة الحرب الأوكرانية تعلو لغة التجييش على الجانبين فى محاولة تكاد أن تكون مستحيلة لحسمها عسكريا.
احتمالات الحرب العالمية الثالثة غير مستبعدة وأشباح النووى حاضرة فى المشاهد المستجدة.
فى قمة حلف شمال الأطلسى «الناتو»، التى التأمت فى العاصمة اللتوانية فيلنيوس، أخذ الجنوح إلى التصعيد مداه.. وكانت ردة الفعل على الجانب الآخر من الصراع مماثلة.
بحسب تصريح لافت لأمين عام «الناتو» «ينس ستولتنبرج»: «الحلف لم يعد منظمة إقليمية للدفاع المشترك بين دول ضفتى الأطلسى»، قاصدا أنه أصبح منظمة دولية يدخل فى نطاقها الجغرافى بحر الصين الجنوبى والمحيطين الهندى والهادى والشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
إنها عقيدة استراتيجية جديدة لـ«الناتو»، أعادت تعريفه ووسعت من نطاقه الجغرافى.
دخلت الصين على خط المساجلات الحادة، فالخطر يتهددها مباشرة، كما يفضى إلى توتير البيئة الدولية ويعيد أجواء الحرب الباردة، حسب بيان لوزارة خارجيتها.
لم يكن «الناتو» بأى وقت محض منظمة إقليمية عبر ضفتى الأطلسى، فقد امتدت أدواره بصورة مباشرة، أو غير مباشرة، إلى الشرق الأوسط والبلقان فى أزمات وحروب دامية.
الطابع العالمى لازم نشأة الحلف عام (1949)، بعد أربع سنوات من نهاية الحرب العالمية الثانية، كذراع عسكرية جماعية للتحالف الغربى.
الولايات المتحدة بقدراتها العسكرية والاقتصادية الفائقة تولت مركز القيادة فى الحلف دون منازع، أدارته وفق تصوراتها ومصالحها الاستراتيجية باسم الدفاع عن الأمن الأوروبى والقيم والمبادئ الديمقراطية.
بعد ست سنوات أخرى (1955) أنشئ حلف «وارسو» كذراع عسكرية جماعية لما كان يطلق عليها «المنظومة الاشتراكية» بقيادة الاتحاد السوفييتى السابق.
بعد تفكك حلف «وارسو» إثر انهيار الاتحاد السوفييتى مطلع تسعينيات القرن الماضى انفردت الولايات المتحدة بقيادة النظام الدولى.
بإزاحة شبح «الخطر السوفييتى» على الأمن الأوروبى لم يعد لـ«الناتو» أى أدوار يضطلع بها، لكنه أبقى عليه وبدأ البحث عن عدو جديد يبرر استمراره!
جرى رفض طلبا روسيا بالانضمام للحلف، وبقيت موسكو رمزا لخطر محتمل رغم التراجعات الفادحة فى أوزانها السياسية وتخليها عن الأيديولوجية الماركسية.
لم تكن الحرب على الإرهاب مقنعة لبقاء الحلف العسكرى المدجج بالأسلحة المتقدمة.
حاول الرئيس الأمريكى السابق «دونالد ترامب» التخفف من التزاماته المالية الباهظة وتبنى شعار: «الدفع مقابل الأمن».. وبدا «الناتو» كجثة فى عرض الطريق تنتظر من يدفنها.
وجد خلفه «جو بايدن» فى الأزمة الأوكرانية فرصة مواتية لإعادة بناء الحلف وتأكيد القيادة الأمريكية من جديد باسم الدفاع عن الأمن الأوروبى والقيم الغربية المشتركة.
جدير بالالتفات أن قمة «الناتو»، التى عقدت فى العاصمة الرومانية بوخارست (2008) طرحت سؤال مستقبله على خلفية مناوشات سياسية جرت بين المستشارة الألمانية «انجيلا ميركل» والرئيس الأمريكى «جورج دبليو بوش».
كانت تجربة الحرب على العراق ماثلة والفشل الذريع مؤكدا.
فى الأجواء السلبية، التى خيمت على قمة بوخارست، طرح السؤال الأوكرانى نفسه، تنضم أو يؤجل انضمامها؟!
جرى استبعاد سيناريو الضم خشية إثارة غضب موسكو بالنظر إلى التعهد، الذى قطع لها مقابل موافقتها على توحيد الألمانيتين، ألا يتوسع «الناتو» إلى حدودها المباشرة، أو تنشر فوقها منصات صواريخ تهدد أمنها.
كان ذلك قبل خمسة عشر عاما.
السؤال نفسه أعيد طرحه فى قمة فيلنيوس.
رغم اختلاف المقاربات والتبريرات انتهت القمة الجديدة إلى استبعاد سيناريو الضم من جديد.
طرحت ثلاثة اشتراطات:
الأول، تحديث الجيش الأوكرانى تسليحا وتدريبا وتنظيما وفق المواصفات الحديثة.
ناقض ذلك الشرط ما قررته القمة من ضمانات أمنية طويلة الأمد ومساعدات عسكرية ضخمة لبناء قدرات دفاعية برا وبحرا وجوا تردع العدوان الروسى.
إذا ما قورن الجيش الأوكرانى بجيش دولة صغيرة مثل فنلندا، جرى احتفاء زائد بانضمامها، فالتناقض يبدو فادحا.
الثانى، رفع منسوب الالتزام بالديمقراطية ومحاربة الفساد.
بدوره لم يكن ذلك اشتراطا مقنعا، فهناك دول داخل الحلف يرتفع منسوب الفساد فيها عما هو جار فى أوكرانيا وتحيط شبهات قوية فى مستوى التزامها الديمقراطى.
الثالث، أن يجرى الضم بعد انتهاء الحرب، فإذا ما دخلت الحلف الآن فإن دوله ملزمة وفق المادة الخامسة من ميثاقه بإرسال قواتها إلى ميادين القتال، وهو ما لا تريده واشنطن، أو أى عاصمة أوروبية أخرى مهما تشدد خطابها
هذه هى الحقيقة دون مساحيق تجميل، أو ادعاءات مشكوك فيها.
وفق الرئيس الروسى «فلاديمير بوتين» فإن أحد أسبابه للتدخل العسكرى فى أوكرانيا منعها من الانضمام لـ«الناتو».
فى تصريحاته لم يأبه لإمدادات السلاح الضخمة التى تعهد بها الحلف، فهى «لن تغير شيئا فى ميادين القتال».
الرئيس الأوكرانى «فولوديمير زيلينسكى» أبدى خيبة أمله من عدم انضمام بلاده للحلف وغياب أى جدول زمنى لمثل هذا الانضمام، لكنه وجد نفسه مضطرا للتعبير عن رضاه بمخرجات القمة والتعهدات العسكرية التى بذلت فيها.
بعض التعهدات مثيرة للالتفات، كأن تحصل أوكرانيا على ضمانات أمنية تماثل ما لدى إسرائيل.
ما المقصود بالضبط بهذه الضمانات الأمنية؟!
هناك فارق جوهرى بين أن تكون الضمانات متعارف عليها سارية ومختبرة وبين أن تكون مكتوبة وملزمة.
فى قمة «الناتو» تبدت تباينات وصفقات سياسية أقرب إلى المراوغات للملمة الشروخ الظاهرة.
من أهم الصفقات المراوغة الوعد الأمريكى الذى بذل لتركيا بالانضمام مستقبلا إلى الاتحاد الأوروبى مقابل عدم ممانعتها فى انضمام السويد للحلف.. وهو وعد لم يلتزم به الأوروبيون أنفسهم!
كانت زيارة الرئيس الأمريكى إلى فنلندا العضو الجديد فى «الناتو» عقب انتهاء القمة تعبيرا عن إدراك ضرورات الشراكة مع دول الشمال الأوروبى فى إحكام الحصار على روسيا.
ضم السويد ينهى مائتى سنة من الحياد ويفتح المجال لإعادة ترتيب الشمال الأوروبى باسم الأمن المشترك.
وفق «بايدن»: «السلم الأوروبى مرتبط بالأمن الأمريكى».
على الجانب الآخر يرى الكرملين فى ذلك التطور انتقاصا خطيرا من الأمن الأوروبى وأن الرد لن يتأخر طويلا.
العسكرة المفرطة وصلت إلى خروق فادحة فى قواعد الاشتباك مثل إمداد كييف بطائرات (F16) وتعهد دول أوروبية عديدة بتدريب الطيارين الأوكرانيين.. وتزويد آلتها العسكرية بقنابل عنقودية بما قد يدعو موسكو كما هددت أن ترد بما هو متوفر لديها من نفس الأسلحة المحرمة.
نحن أمام فصل جديد من الصراع على مستقبل النظام الدولى باعتبارات القوة وحدها، الذرائع والحيثيات الأخرى صارت على الهامش لا فى صلب الصراع.