هنأ الأمريكيون أنفسهم على ما اعتبروه نصرا مؤزّرا فى ليبيا. لم يخسروا جنديا واحدا، وحتى فاتورة تكاليف العمليات العسكرية سيقومون بإرسالها إلى حلفائهم الأوروبيين، وفى نهاية الأمر سيتحملها الليبيون من أرصدتهم المجمدة أو من بترولهم عندما تضع الحرب أوزارها. وفوق كل هذا أعتبرت الولايات المتحدة أن ما حدث نموذجا يُحتذى للتنسيق بين جانبى الأطلنطى وتقاسم للأدوار بين أمريكا ودول الناتو الأوروبية. ومن فرط إعجاب الأمريكيين بذلك الإنجاز أطلق البعض عليه «مبدأ أوباما» ليدخل التاريخ إلى جانب المبادئ الأخرى التى أقترنت بأسماء رؤساء أمريكيين فى السابق.
أسارع هنا للقول بأنه من الخطأ الاعتقاد بأن الولايات المتحدة قد نفضت أيديها من المسرح الليبى بمجرد أن انقضّت بصواريخها وقنابلها على الدفاعات الجوية الليبية فى الأيام الأولى للحملة، إذ إن الولايات المتحدة قد وفرت للحلفاء الأوروبيين حتى لحظتنا هذه كل ما يحتاجونه للاستمرار فى عملياتهم. وفرت أمريكا طائرات الاستطلاع (أواكس)، وطائرات الإمداد بالوقود جوا، وأجهزة التشويش، وكذلك وجدت السفن الأمريكية على مقربه من السواحل الليبية كى تعترض الصواريخ الليبية. وفوق هذا وجدت قوات خاصة أمريكية، إلى جانب البريطانية والفرنسية والهولندية على الأرض الليبية من أجل التدريب وتوجيه الطائرات المغيرة ناحية الأهداف المقصودة. ظل وجود هذه القوات سرا دفينا لفترة طويلة، وتعمدت أجهزة الإعلام عدم الخروج علينا ولو بلقطة واحدة لهم طوال فترة الحملة!
غير أن السؤال الذى لابد وأن يطرح فى نفسه ــ وبشدة ــ هو حقيقة حجم المصالح الأمريكية والأوروبية فى ليبيا، والتى دفعت بهم إلى خوض الحرب إلى جانب الثوار، هذا إذا لم نسلم تماما بأن التدخل الغربى كان إنسانيا فى الأساس ولحماية المدنيين لا أكثر! هناك ولا شك اعتبارات كثيرة كانت وراء الحماس الأمريكى والأوروبى لنصرة الثوار. أول ما سيبادر إلى الذهن هو البترول والغاز، غير أن ذلك لا يمثل الحقيقة كلها. صحيح أن إيطاليا تستورد 22% من احتياجاتها من البترول من ليبيا، وفرنسا 16% وإسبانيا 13% من احتياجاتهما على التوالى، كما أن كان لأمريكا العديد من الشركات التى تعمل فى حقل استخراج البترول على رأسها: فيلبس ــ ماراثون ــ هاس ــ أُوكسيدنتال، وأن الإنتاج الليبى مرشح للزيادة فى المستقبل بفضل هذه الشركات، إلا أن الأهم من كل البترول والغاز هو ذلك الموقع الإستراتيجى الفريد الذى تتوسط فيه ليبيا دولا عربية وأفريقية لها أهميتها الحيوية، مثل مصر وتونس والجزائر وتشاد والنيجر. أنشأت الولايات المتحدة ما أطلقت عليه القيادة العسكرية الأمريكية لأفريقيا (USAFICOM) عام 2007، وعندما أعيتها الحيل فى العثور على مقر لقيادتها فى أفريقيا أنشأت مقرا مؤقتا لها فى شتوتجارت بألمانيا، وذلك حتى عام 2012. لم يكن القذافى راضيا عن تلك القيادة الأمريكية المسئولة عن كل الدول الإفريقية فيما عدا مصر. أما الآن، وقد تبدل الحال، وقدمت أمريكا والناتو كل هذه الخدمات إلى الليبيين، فهل سيتغير موقف ليبيا من هذه القيادة وتقبل استضافتها إذا طُلب منها ذلك؟
●●●
كان مسار العلاقات الليبية مع الغرب مضطربا ومتفجرا لسنوات طوال، إلى أن حدث الانفراج فى العلاقات، بعد أن ارتدت ليبيا ثياب الحمل الوديع، وأعلنت التوبة عن العمليات الإرهابية وعن محاولة إنتاج السلاح النووى. ومع ذلك يعلم الغرب أن لليبيا مخزونا لا بأس به من الأسلحة الكيمياوية، ولديها قدرات صاروخية (اعترضت السفن الأمريكية صواريخ سكود أثناء العمليات). لذلك فأعين الغرب ستظل مركزة على ليبيا، وأعتقد أن السيناريو، الذى جرى فى العراق بعد غزوه الكويت عام 1990 سيتكرر مع ليبيا من أجل تفكيك ما لديها من هذه الأسلحة والصواريخ. وواقع الأمر أن الشكوك المتبادلة بين الغرب وليبيا لم تتبدد تماما بعد إعلان توبتها. ظل القذافى شخصية لا يمكن التنبؤ بتصرفاته ولا يؤمن جانبه تماما. كثيرا من سياساته فى أفريقيا لم تكن محل رضا الغرب تماما، بل رأت فيها تهديدا لمصالحها فى القارة أو على الأقل تقدير منافسة لها هناك. نجح القذافى فى إقامة علاقات وثيقة مع الدول جنوب الصحراء، وساهم فى قيام مؤسسات اقتصادية أفريقية متحررة من النفوذ الغربى، مثل بنك الاستثمار الأفريقى، والبنك المركزى الأفريقى، وصندوق النقد الأفريقى. وتستثمر ليبيا فى أفريقيا ما يصل إلى 6 بلايين دولار. هذا على الجانب الاقتصادى، أما على الجانب العسكرى فقد رفضت ليبيا المشاركة فى أى ترتيبات أمنية أو مناورات متعلقة بالبحر الأبيض المتوسط تبنتها فرنسا والناتو. كما لم تشارك ليبيا فى الحوار المتوسطى مع الناتو. القذافى إذن كان بمثابة شوكة فى حلق الغرب عندما يتعلق الأمر بأهداف الغرب ونواياه تجاه أفريقيا.
هناك مبررات عديدة دفعت الاتحاد الأفريقى إلى بذل الجهد للتوصل إلى حل سلمى للأزمة فى ليبيا، وما زال الاتحاد يتحفظ على الاعتراف بالقيادة الجديدة فى ليبيا. فقدت دول أفريقية مجاورة فرص عمل كبيرة لرعاياها فى ليبيا (النيجر وحدها فقدت 200 ألف وظيفة)، وتتعرض هذه الدول لاتهامات بأنها أمدت نظام القذافى بالمرتزقة من أجل محاربة الثوار. أدى هذا الأمر إلى فرار أعداد كبيرة من الأفارقة إلى بلادهم الأصلية خوفا من أى أعمال عدائية. لا نعلم مدى صحة هذه الاتهامات، إنما المؤكد أن هذه الاتهامات أحدثت شرخا عميقا بين ليبيا الجديدة والدول الأفريقية، بل ربما انعكس ذلك على العلاقات الأفريقية العربية عموما، إذا لم تسارع الدول العربية بتطبيب هذه الجراح.
●●●
فإذا كان للغرب مثل هذه المصالح فى ليبيا، فلابد أن نستنتج أنه باقٍ هناك لفترة ممتدة، سيكون على ليبيا أثناءها سداد فاتورة تكاليف العمليات العسكرية، ورهن عوائد بترولها من أجل ذلك، لسنوات طويلة مقبلة. أضف إلى ذلك أن الأرصدة الليبية المجمدة فى دول الغرب ستغطى هى الأخرى جانبا من تكلفة العمليات العسكرية. (ومرة أخرى أجد تجربة استنزاف ثروات العراق بعد غزوه الكويت ماثلة أمامى). هناك أيضا عمليات إعادة الإعمار وما تخلقه من فرص ضخمة أمام الشركات الأوروبية والأمريكية لبناء ما تم تدميره من المرافق والبنية التحتية. سيغنم الغرب الكثير من الحملة على ليبيا، لكن لا يمكن أن ينطبق القول نفسه على الدول الأفريقية التى كانت تتطلع إلى الدعم الليبى السياسى والاقتصادى. مصائب قوم عند قوم فوائدُ!
يبقى بعد ذلك أن نتعرض إلى قضية على جانب كبير من الخطورة، وستلازمنا لفترة طويلة مقبلة.
وقع فى أيدى الثوار كم هائل من السلاح المتقدم، هطل بعضه عليهم من السماء عن طريق الطائرات الفرنسية، والبعض الآخر استولوا عليه من ترسانة السلاح لدى القذافى. جزء كبير من ذلك السلاح وجد طريقة إلى الدول المجاورة مهددا لأمنها القومى. أضف إلى هذا، ما كثر الحديث عنه فى الفترة الأخيرة، من ازدياد نفوذ تنظيم القاعدة والجماعات المتطرفة فى ليبيا وشمال أفريقيا ودول الساحل. لم يكن غريبا أن يتم عقد اجتماع مهم فى الجزائر يوم 8 سبتمبر الجارى من أجل التصدى لنشاط القاعدة، ثم فرضت الأحداث فى ليبيا نفسها على المجتمعين، فركزوا على بحث شكواى دول الجوار الليبى من تدفق السلاح والمقاتلين عبر الحدود. حضر الاجتماع وزراء خارجية الجزائر وموريتانيا ومالى والنيجر، بالإضافة إلى 38 وفدا من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبى وعدد من المؤسسات الدولية. واللافت أيضا أن قائد القوات الأمريكية فى أفريقيا الجنرال كارتر هام، الذى يبحث منذ فترة عن مقر لقيادته على الأرض الأفريقية، كان فى صدارة المجتمعين إلى جانب مسئولين فرنسيين.
●●●
ستكون حدودنا الممتدة مع ليبيا مصدر قلق طالما لم تنعم جارتنا الغربية بالاستقرار. مشكلة حدودية أخرى لابد وأن نعمل لها ألف حساب.